تأبى عقارب الساعة إلا قفزا إلى الأمام !
يقولون : ليل السمد طويل ، فما بال ليلي قصيرا و أنا التي لم يغمض لي جفن ؟!
ربما الخوف من الغد هو ما يجعله يأتي .
وهذه الشمس تشرق أبكر من عادتها ، خيوط أشعتها تنساب من النافذة لتعلن بداية فصل أول من عذاب غير معلوم النهاية .
و كأني وأنا أسدل الستائر السميكة على النوافذ أحاول عبثاً أن أزيد في ليلتي هذه .. بضع دقائق فقط .. تأملت نفسي برهة وقلت لها: هل العذاب الذي أسكن فيه له نهاية ؟!
حاولت إجهاض القلق الذي أحمله داخلي.. ولكن لم أستطع..
دخلت عليّ الطبيبة بعين مكسورة، و كأنها لا تريد أن تنظر إليّ.. فجأة بدأ جسمي بالارتجاف، وقلبي ينبض بجنون..
وقالت لي: تماسكي أرجوكِ وهدئي من روعك، فالمرض الخبيث قد تمكن من جسدك وسنحاول أن نفعل ما بوسعنا للقضاء عليه، ولكن نحتاج منكِ أن تعاونينا بصبرك..
حدقت فيها مندهشة وغشاء رقيق من الدموع يكسو عيني، وبدأت دموع احداقي تجري في مآقيها، لتنهمر بحرارة على خدي..
شعرت وقتها بأنها ليست دموع بل دماء تتساقط من جفنتيّ..
خرجت الطبيبة وأغلقت باب الغرفة خلفها، شعرت وقتها بأن حياتي هي من اُغلقت، وقفزت مسرعتاً إلى نافذتي لأفتح ستاراها..
فإذا بالدنيا أمامي أصبحت سوداء كالحة..
التفت الى غرفتي التي تضج بأصوات الأجهزة التي تخترق جسدي..
ولكن صوت ضجيج الأسئلة التي لا تجد جوابها في عقلي كانت أصخب منها..
فقد كنت كالوردة اليانعة أتمتع بكامل صحتي وعافيتي.. واليوم أصبحت جسد يسكنه ذلك المرض اللعين.. وكل ما أفعله هو أني أتجرع عذاب لأتخلص من عذاب أخر
تخللني صمت بات لمدة دقائق.. تأملت في ظلام غرفتي وأنا أبحث عن نبراسه جال في خاطري سؤال.. ماذا سيحدث إن حاصرتُ فكرة المرض في ذهني؟!
فأنا أتمتع بصوت جميل، يتخلله بحة عذبة، يتلذذ به كل من يسمعه.. فعندما يتساقط شعري و يصفر لوني و يهمد جسدي فماذا سيحدث لصوتي؟!
وبدأت أغني والأنين يخترق لحني، وكأن صوتي ولأول مره يخرج من أعماقي..
وأغمضت عيني فأحكمت إغلاقها وبرد جسمي فلم أشعر بنفسي إلا بعد أن تبللت وسادتي بالدموع.
وشعرت بيدٍ تتخلل أصابعها بين شُعيراتي الباقية في رأسي..
وتقول لي: يا جمال صوتك الندي.. وإحساسك النابع من أعماقك.. فالدموع التي تبللت بها وسادتك كانت دموعي.. لقد كانت تلك هي الطبيبة المسؤولة عني.. حينها اشتعل ضوء ضئيل في غرفتي المعتمة..
وقالت لي: سوف آتي لغرفتكِ كل يوم بشرط أن تزفي قدومي بأغنية من صوتك الجميل.. فوافقت على شرطها و دموعٌ لا ادري هل هي سعيدة أم حزينة تلمع في عيني..
ونمت على أمل ان اصحوا من ذاك الكابوس المريع..
وأشرقت شمس غدٍ و أرسلت سراجها ليداعب جفوني بهدوء.. وكأنها تقول لي استيقظي لا وقت للنوم فأمامك الكثير لتفعليه..
طرقت عليّ طبيبتي و معها الممرضة التي تساعدها.. وقالت لي: تلك هي مُساعِدَتِي أحضرتها معي اليوم لنجلس سوياً.. رحبت بها وأخبرتني بأن طبيبتي تحدثت عن جمال صوتي و روعته..
وطلبت مني أن أُسمعها إياه .. وأسمعتها جزئاً من أغنية أحبها.. فاجأتني هزة رأسها وهي تنصت إليّ.. كانت هزة إعجاب عجيبة..
لهذه الدرجة يعجبهم صوتي؟!
أم أني فعلاً مَن أيقظت في نفسي شعلةَ أمل لأكمل حياتي بها قبل أن أفقدها وتنطفئ؟!
يوماً بعد يوم ازداد عدد المعجبين بصوتي في المستشفى و أصبح لي رفقة جدد يخففون عني..
ففي وقت العلاج يأتون ليسمعوا صوتي وفي نفس الوقت أتناسى ألآمي..
لم يمر وقت طويل..
تساقط شعري وأصفّر لوني وهمد جسدي، لكن لم يخذلني صوتي..
وفي يوم من الأيام إنتظرت شمسي ليتسلل وميض برقها إلى نافذتي.. ولكنِ صبرت كثيراً.. وأحسست بأني غير قادره على الغناء.. وأحداقي تكحل عيناي
كنت متعبتاً كثيراً.. أتى أصدقائي ليستمعوا لي و جاءت الطبيبة لتركب لي أنبوب العلاج.. ولكنها تفاجئت بيدي الضعيفة تمسكها لأخبرها أنني لا اريد علاجي اليوم!!
فاجئها كلامي الذي لم تعتد سماعه، سألتني عن السبب؟
قلت لها اريد انا أقضي تلك اللحظات معكم فقط دون أن اشعر بالألم.. فوافقت وجلست بجانبي ..وبدأت اغني بصوت ضعيف وفجأة شعرت بأني لا استطيع ان أكمل!!
اعتذرت من أصدقائي وقلت لهم اتركوني برهة مع طبيبتي.. خرجوا وعلامات التعجب على وجوههم..
ولكن ماهي الا دقائق وخرجت الطبيبة ودموعها تسبق كلماتها..
لتخبرهم عن وفاتي..
لقد بكى اصدقائي وبعضهم لم يصدق الخبر..
رحلت وتركت عذابي وحيداً.. رحلت وتركت اصدقائي يشتاقون لي ولصوتي.. لقد تركتهم ورحلت الى ربي لعله يبدلني بعذابي الذي عشته في الدنيا راحة و سعادة في جنته.. ..تمت.
.