يقول الكاتب المسرحي والروائي المصري (توفيق الحكيم)، والذي هو من أعظم كتاب مصر في العصر الحديث، في سيرته الرائعة (زهرة العمر) بتصرف:
"إني أطالع في اليوم ما لا يقل عادة عن 100 صفحة في مختلف ألوان المعرفة من أدب وفنون وفلسفة وتاريخ وعلوم رياضية وروحانية. مائة صفحة في اليوم يعني ثلاثة آلاف صفحة في الشهر. إن التحصيل في ذاته للثقافة والتكوين هو لذتي الكبرى. إني اقرأ ﻷهضم ما قرأت؛ أي أحلل مواد قراءاتي إلى عناصر تنساب في كياني الواعي وغير الواعي. المطالعة في ذاتها ما أيسرها وما ألذها عندي.
ولقد فتحت أمامي المطالعات دنييات لا قبل لي بها، وعوالم لا حدود لها.
ولقد أضعت وقتي كله في "باريس" منحنيا على مكتب الحجرة رقم (48) بشارع بلبور، اقرأ واقرأ حتى قرأت كل شيء.
لم أترك شيئا في تاريخ النشاط الذهني لم أطلع عليه. لقد غرقت في آداب الأمم كلها وفلسفاتها وفنونها. لم أكن اسمح لنفسي بأن أجهل فرعا من فروع المعرفة؛ ﻷني كنت أعتقد أن اﻷديب في عصرنا الحاضر يجب أن يكون "موسوعيا"؛ لذلك بذلت جهدي في أن أحيط بأبرز ما أنتجت العبقرية الإنسانية.
حتى العلوم، أردت أن ألم إلماما بأهم نتائجها. ففي الهندسة، حاولت فهم هندسة "نيومان" المعارضة لهندسة "إقلديوس" التقليدية. وفي الرياضة، أردت فهم مراميها العليا في مؤلفات الرياضي "هنري بونكاريه"، وفي الطبيعة والفلك، بدأتهما بإسحق نيوتن حتى بلغت نظرية أينشتاين، التي قرأت فيها وحدها نحو خمسة كتب.
وفي علم الحياة، قرأت بعض كتب "داروين" و"لامارك". وفي علوم النفس، بدأت بكتب "جورج توماس" و"أرمان ريبو"، وانتهيت إلى أكثر ما كتب عن نظريات "فرويد"، ولفتت نظري العلوم "التيوزوفيه"، فقرأت كتب "آن بيزانت" و"إدوار شوريه" و"رودلف ستينر"، وخرجت منها إلى العلوم الروحية، فقرأت أبحاث "أوليفر لودج" و"وليام باريت" و"فلاماريون"، حتى علوم الكهرباء، حاولت فهم ما استطيع فهمه من نظريات "فاراداي" و "تومسون" و "بيران"... إلخ.
أما قراءتي في القصص التمثيلي فهي أعجب شيء فعلته. لقد قرأت "المكتبة المسرحية" برمتها، فإني كنت أراسلها من مصر قبل نزوحي إلى (فرنسا)، وأعرف عنوانها في "الجران بولفار"، وكانت هي أول حانوت دخلته إذ دخلت باريس. فجعلت أختلف إليها أياما طويلة، أطالع صفوف كتبها صفا صفا، وانطلق آخر النهار بما استطيع شراءه مداراه لصاحب الحانوت، واعتاد الكتبي رؤيتي كل يوم على هذا الحال، إلى أن نظر ذات يوم حوله فلم يجدني، فسأل في ذلك أحد عماله مستغربا، ثم حانت منه التفافة إلى أعلى المحل، فأبصرني في قمة السلم لاصقا بالسقف ألتهم الكتب التي في الصف العلوي اﻷخير. أجل فعلت هذا. وبعد ذلك انكببت أكتب وأكتب مخطوطات.
لقد كنت أظل أكتب تسع أو عشر ساعات في اليوم بلا انقطاع دون أن أذكر الجوع، أو أفطن إلى أوقات الطعام".