يقدم شكيب أرسلان في سفره «الرحلة الحجازية: المسماة الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» الذي صححه وعلق عليه وطبعه السيد محمد رشيد رضا بمطبعة المنار في 1931م، نموذجا فريدا في أدب الرحلات، فهو إذ يأخذنا في سياحة لأرض الحجاز واصفا بأسلوب أدبي جبالها ووديانها وشعابها، سهلها وصعبها، يضع تلك المشاهدات في سياق تاريخي وعلمي قلما يعتني بمثله كتاب الرحلات.
وأمير البيان شكيب أرسلان (1869-1946 م) شخصية فذة في أدبه وبيانه ونضاله وسعيه لوحدة الأمتين العربية والإسلامية، ولد في لبنان لعائلة من أمراء الدروز، يعود نسبها إلى المنذر بن نعمان. قدم إلى الحجاز سنة 1929م واتصل بالملك عبدالعزيز، فكان محل حفاوته الخاصة. نزل الأديب والسياسي بدار فؤاد بك حمزة بمكة المكرمة، ولكنه سرعان ما وجد في نفسه ضعفا ووهنا على تحمل الصيف المكي، فهو اللبناني المقيم في جنيف ومن أمضى سنوات طوال من حياته سائحا بين المدن الأوروبية، فلم يعتد بدنه تلك الأجواء، فيقول «وذلك أني من أبناء جبل لبنان، ولم تألف أجسامنا الحر الشديد الذي ألفته أجسام إخواننا أهالي جزيرة العرب» فلما نما إلى علم الملك تلك المعاناة التي يلاقيها أرسلان، أشار إليه بقضاء ما تبقى من إقامته في بساتين الشهداء، فكان، قبل أن يتم حجته ويصعد مسرعا إلى الطائف.
اعتنى في كتابه بمسألة كانت فيما يبدو مدار جدل في عدد من المطبوعات العربية في تلك الحقبة، ألا وهي الانتقادات التي تعرضت لها طائفتا المطوفين في مكة والمزورين في المدينة النبوية. لم يصرح على سبيل التعيين بمن أثار تلك الاتهامات في حق المطوفين خاصة، إلا أن استقراء بعض مصنفات الرحلات الحجازية في تلك الفترة كمرآة الحرمين لإبراهيم رفعت باشا والرحلة الحجازية للبتنوني يقود إلى استنتاج أن أرسلان أراد تناول تلك التهم بعين المجرب المشاهد. ويبدو أن شكيب قد ساءته تلك الاتهامات التي دفع بها إبراهيم رفعت باشا، والبتنوني إضافة لبعض المقالات في الصحف المصرية التي تناولت المطوفين بالسوء. فمضى في رفع ما وقع عليهم من ظلم وتجن. وفي معرض دفاعه، الذي أفرد له فصلا في كتابه، يقول «إن صح في هذه المقالة (يعني الاتهامات) بحق المطوفين قيراط أو قيراطان، فالاثنان والعشرون قيراطا الباقية أقاويل تزييف على المطوفين، وتزوير على المزورين».
وكان أمير الحج المصري إبراهيم رفعت باشا قد وجه سهام نقده للمطوفين بزعمه فرضهم المكوس على الحجاج. غير أن شكيبا، بفرض صحة خبر المكوس، لا يرى بأسا في تعويض المطوفين إزاء ما يقدمونه للحجيج من خدمات، إذ يقول «ولا شك في أن الحاج الذي يجشم المطوف جميع تكاليفه، ويريد أن يتخذ منه دليلا، وحارسا، ومحاميا، ومفتيا، وطبيبا، وصيدليا، وممرضا، ودلالا، وغير ذلك في وقت واحد، يكون ظالما إذا استكثر أن ينقد هذا المطوف في آخر السفرة جنيها واحدا» ويمضي أرسلان ليشهد أن أهل مكة كانوا يؤدون إلى فقراء الحجاج من حر مالهم بل ويؤثرونهم على مكاسبهم الموسمية.
ودعا أرسلان إلى إنشاء مدرسة متخصصة في فنون الطوافة تأخذ بأسباب الحداثة، فتتعلم الناشئة في مكة فنون الضيافة الحديثة وضروب العناية بالزوار والحجيج، وهي فكرة سبقه بها بنحو 20 عاما المؤرخ والرحالة المصري لبيب البتنوني بعد إتمام حجته برفقة الخديوي عباس حلمي الثاني سنة ١٩٠٩م.
كان أمير البيان إبان إقامته في مكة محل احتفاء الكثير من الشخصيات الرسمية والوجهاء والأعيان، فأقيمت الحفلات بمكة على شرفه، ونذكر بعضا منها مما نشرته الصحيفة الرسمية للدولة، أم القرى، من خبر تلك الاحتفالات، وجاء منها ما أقامه عبدالله الشيبي الذي أدب مأدبة في بيته بجبل أبي قبيس، وعباس قطان أمين العاصمة الذي بدوره أقام احتفالا بداره بمحلة الشامية، ووزير المالية عبدالله السليمان، إذ استضافه بقصر المنصور، ثم فؤاد حمزة - وكيل الشؤون الخارجية والذي استضاف أرسلان خلال إقامته في مكة واحتفى به قبل رحيله. غير أن ثمة شخصية مكية نالت مكانة خاصة في قلب أبي غالب، ذلك هو الشيخ عبدالقادر الشيبي – سادن البيت الحرام، إذ تظهر حظوته عند أمير البيان جلية في العديد من الإشارات في كتاب الارتسامات، حتى قال فيه ارتجالا:
يقولون لي: نبغي جواب سؤالنا
ويسألني عن ذاك صحبي وجلاسي
لماذا نرى الشيبي عندك أولا
وتؤثره في كل شيء على الناس
فقلت: أرى الشيبي يندر مثله
ببر وإكرام ولطف وإيناس
وفي خدمة الإسلام قد شاب مفرقي
لذاك أرى الشيبي تاجا على رأسي