فَطائرٌ محلَاة ، قَهوةٌ لَا تبرُد ، أزهَارٌ عَطِرَة ، حبّاتُ التُّوت ، سطوُرٌ فارِغة ، وقَلمٌ ينزِف حِبرًا ، لَا يُقيّدهُ وَقتٌ ، وَلا مكَانٌ ، أقبَلتُ عَلى مَوطنِي ، حَيثُ أذُوب فِي الأرَاضِي الثَّلجيّة بِإحسَاسي الدَّافِئ ، وَأجمعُ شَظايَا الزُّجَاجِ لِأكوّن مِرآةً ، تُخبرنِي فِي كُلٍ حِين "إِنّ الكَاتبَ غرِيقٌ بَين عقلِه وَحُبِّه ، ظَالمٌ لِنفسِه ، فاعدِلي فاعدِلي" . . .
تركتُ العَصافِير تخطِفُ حبّاتِ التُّوت ، لَا أشتهِيها الآن ، وَلكنْ رُبّما لاحِقًا ، حِين أعيِشَ هذَا الواقعُ بِخيَالٍ ، بِخيَالٍ سَرمَدي ، فَأتنعّمُ بِطقُوسِ الحُبّ ، ودِيانَاتِ الصَّبابةِ . . .
ارتَكبتُ هَفوةً وَأنَا أعزفُ عَلى الكمنجَةِ خاصَّتِي ، قلَمِي ودفتَري ، عُدتُ أتيقَّظ لِسكنَاتِه ، لِإيماءاتِه ، لِمقطوعَاتِه الموُسيِقية ، أصدِفُ عَن مُرادِه ، ومقصُودِه ، أعيِشُ عمرِي بِخيالِي ، مَا كَانَ لِسفاسفِ الأُمور مقرًّا عنْدِي . . . أترُكهَا تذهَبُ أدرَاج الرِّياح ، أترُكهَا تَسبِقُ الرِّمَاح ، والأشبَاح !
الشِّتاءُ ، وقهوَته ومعَاطِفهُ الثَّقيِلة ، إلهَامٌ يسحَقُ دُلجَة الوَنى . . . إلهَامٌ يتهَافتُ عَلى عقلٍ سَهى !
لا أدرِي إِنْ كُنت أستَطيع أنْ أَغدُو رسَّامة ، أَطمسُ عَلى الغُرابِ وأُحرّر اليَمامَة ، لَا أدرِي إِن كُنت أستَطيِع أَن أُسلّم عَقلِي إِلى زِنزَانات الوَاقِع ، وأعُود وتعُود معِي الشِّفاه البَاسِمة ، لَا أدرِي إِن كُنت أستَطيع أَن أجعلَ الأُفقَ ورديّــًا ، وَنِياح البَواكِي يَغدُو شَدوًا . . .
لا أدرِي ، فأنَا كَاتِبة ، وَلِي صُورتِي الفَريِدة ، وإيقَاعِي الخَالِد ، لَديّ مجرّتِي الواسِعة ، وَنجُومِي الهَامِسة ، وَأقمَاري الكرويّـة ، ففِي مُنتصفِ "مَارس" تتسقُ أفكَاري عِند اتِّسِاق القَمر ، وفِي "أكتُوبَر" تَحضنُ الأرضُ أَورَاقًا حمْراء ، وبُرتقَاليّـة ، وفِي "ديِسمبَر" تستعِبرُ السَّماءُ ثَلجًا ، ووَدقًا ، غَيمٌ يعلُو الفَضاء ، ضَبابٌ يتحدّى التِقاء أيدِي العُشَّاق . . . .
عَجلةُ الزَّمنِ عنْدي ، تدُور بِبطءٍ ، ببُطءٍ تَام ، كُل فِكرةٍ ، شُعورٍ ، وَجهٍ ، كُل رمزٍ ، بَسمةٍ ، كُل مَوقفٍ ، عِناقٍ ، كُلّ قَطرةٍ ، ونظرَةٍ ، أستَغرقُ سَاعةً لِأعبّر عنهَا ، لأُرمّم الكُسورَ الحَادِثة بِسببِ خِيانةٍ ، أَو وداعٍ ، أَو كُرهٍ أَو لحظَة غَضبٍ ، خَيالِي تجَاوزَ حدّه فِي الخَيالِ . . .!
لِكي تَعلمَ يَا سيِّدي ، أَنا سَوف أبدّلُ السَيءَ بِالجيّد ، وَالادلِهمَام بِالضِّياءِ ، سَأهتمُّ بِالصُّورةِ التِي أُريدهَا ، سَأصنعهَا ، لِتنَال عَلى إعجَابِك قَبل إعجَابِي . . . فَلا تنسَى "أنَا كاتِبة" وَإن أحبَبت كَاتِبةً ، فَلنْ تمُوت أبدًا . . .