مقتطفات من تاريخ الطوافة من جريدة الشرق الأوسط الثلاثـاء 16 شعبـان 1434 هـ 25 يونيو 2013 العدد
سبعمائة عام أو يزيدون، كان العمر الزمني الذي عاشته مهنة الطوافة في مكة، مر فيه خط سيرها بكثير من التعرجات التي قادتها تحت الانضواء في العمل المؤسسي بعد أن كانت موصولة ببعض الأسر المكية.
الطوافة تاريخ مكي متسلسل ومتصل، أصل لمفاهيم الرفادة والضيافة بأعلى مستوياتها، وقدم مكة كأنموذج متفرد يحاكي جماليات المشهد المكي بكل تفاصيله، بل وسجل تاريخياً مفاصل مراحل العاصمة المقدسة عبر مئات القرون التي ظلت فيها مكة تتنسم دور الريادة في الرفادة والسقاية.
يقول سعد الجودي، أستاذ علم التاريخ الحديث "إنها مهنة لم يكن يختص بها أحد من عامة الناس في ثنايا التاريخ الماضي، بل كانت صفة تمنح لكبار العلماء والفقهاء باعتبارها مهمة عظيمة وجسيمة لا يحق لأحد أن ينضوي تحتها، بحكم أن المطوف كان منزله موئلا للدراسات العلمية، ومعرفة أهم المسائل الفقهية والشرعية التي يتعرض لها الحجاج والمعتمرون ".
من جانبها قالت عواطف نواب، الباحثة المتخصصة في شؤون الطوافة بجامعة أم القرى لـ«الشرق الأوسط»: " إن مهنة المطوفين والزمازمة بدأت على ما يبدو عندما قسم قصي بن كلاب أمور مكة بين أبنائه ومنها الرفادة والسقاية، وهي بالتالي من المهن القديمة التي تطورت وتهدف إلى خدمة الحاج وتوفير سبل الراحة له؛ لذا هي من المهن الرسمية التي اقتصرت على أهل مكة والذين أتوا إليها من سنوات طويلة وأصبحوا مكيين بحكم العيش بها ".
وأشارت نواب إلى أن الحجاج في السابق كانوا يتولون أمر أنفسهم من حيث تدبير السكن لهم في منازل أهل مكة بالإيجار، أو بنصب الخيام لهم خارجها، وربما أطلق لقب المطوف للطواف حول الكعبة المشرفة، فقد ذكر ابن رشيد في رحلته في القرن السابع الهجري، أن بالحرم المكي أشخاصا مهمتهم الطواف بالحجاج وتلقينهم الأدعية المناسبة في ذلك الموقف، كما كان سدنة البيت المشرف على يقومون بمساعدة الحجاج على الطواف مقابل أجر مالي يأخذونه.
وذكرت نواب الباحثة المتخصصة في شؤون الطوافة أن أولى الإشارات التي كانت لمهنة الطوافة بدأت في عام 1296م، عندما حج أحد الأمراء المماليك وكان لا يجيد العربية، فتقدم أحد علماء مكة للطواف به وتلقينه الأدعية المناسبة، مشيرة إلى أن مهمة السهر على راحة الحجاج منذ خروجهم من أوطانهم، وحتى عودتهم بما في ذلك أثناء وجودهم في مكة، تقع على عاتق أمراء الحج إذ يحتوي ركب الحج على قاض وإمام الوعاظ والعلماء الذين يتولون أمر تعريف القادمين معهم أمور الحج، بل والفتوى لهم.
وقال نواب إن السبب في وجود مهنة الطوافة هو وجود طائفة من الوافدين الذين أقاموا بمكة من شتى أنحاء دول العالم الإسلامي واحتفظوا بلغتهم الأم مع إتقانهم للعربية فكانوا يلجؤون إليهم بسبب سهولة التفاهم، وبمرور الوقت اتسعت الخدمات المقدسة لقاء أجر يأخذونه، فأصبحوا يستقبلونهم في ميناء جدة إن كانوا قادمين بحرا، بل تعدى الأمر نحو ذهاب المطوف إلى البلد الذي يعود أصله إليه لجمع أكبر عدد من المعتمرين بغية تحجيجهم وتثقيفهم، كنوع من الدعاية، كما ظهر في الوقت نفسه ما يبدو تخصص مطوفين لجنسيات معينة مثل الجاوي والفارسي والتركي، والمغربي وغيرهم.
وأشارت نواب إلى أن المطوف عني باستقبال الحجيج وضيافتهم وإرشادهم في طوافهم وسعيهم، هو من يعينهم على أداء أمور دينهم وأداء مناسك حجهم وعليه أن يؤمن لهم الراحة والطمأنينة من ساعة قدومهم إلى حين مغادرتهم الأراضي المقدسة، مؤكدة أنم هنة المطوفين ما زالت قائمة إلى الوقت الحالي، بيد أنها انضوت جميعا تحت مؤسسات الطوافة، التي تهدف إلى التحسين ورفع مستوى خدمة الحجاج في بيت الله الحرام، فأصبحت أكثر تنظيما وتحت إشراف وزارة الحج، بل وجميع مؤسسات الدولة.
وختمت الباحثة حديثها، بأن ما يلحق بمهنة الطوافة هي السقاية – سقاية زمزم - وكانت مهمتهم سقي الحجاج بماء زمزم في أوعية يمدونها تسمى الدوارق وهي قديمة ولها شكل مخروطي مميز، وكان المسجد الحرام قبل أن تتوافر به وسائل التبريد الحديثة مليئا بها، وكان شاهدها ابن جبير في القرن السابع الهجري، مفيدة أن هذه الطائفة لها رئيس ومعاونون، مهمتهم سقاية الحاج وإيصال ماء زمزم له أيا كان داخل مكة المكرمة، فأصبحت هي مؤسسة قائمة بذاتها، وأصبح الحاج يهدى ماء زمزم في أوعية بلاستيكية يوصلونها إلى مقر إقامته بمكة وعند مغادرته أيضا.
بدورها قالت الدكتورة أميرة المداح، أكاديمية بجامعة أم القرى لـ«الشرق الأوسط»: «وتعتبر مهنة الطوافة من المهن المتوارثة أبا عن جد، وكان للمرأة المكية دور كبير في خدمة ضيوف الرحمن، ويشترك في خدمة ضيوف الرحمن كل أفراد الأسرة، فيقدمون كل ما يحتاجه الحاج من خدمات على أكمل وجه، وقد أثبتت المرأة المكية جدارة في أداء مهمتها كمطوفة، فليس بالمجهول أن النساء قد نبغن من قبل، وينبغن الآن في وظائف من الأعمال التي يضطلع بها الرجال، وقد اشتهرت منهن الباحثات والخطيبات، كما اشتهر منهن الصالحات الممتازات في شؤون الدين والدنيا وشمائل الفضائل والأخلاق».
وأضافت المداح «وقد بقيت المهنة في أبناء الطائفة يتوارثونها أبا عن جد على الرغم من أن أمراء مكة وأشرافها كانوا يخالفون القاعدة ويمنحون بعض المتطفلين والدخلاء على المهنة حق العمل في الطوافة، وذلك بتكليف من السلاطين العثمانيين الذين كانت تذهب إليهم المكوس وواردات مكة من الحجاج، وقد عملت النساء أيضا في العهد العثماني في الطوافة مثل المطوفة "رحمة شبانه "وهي من أهل مكة وقد ورثت الطوافة عن والدها إسماعيل شبانه وانفصلت عن إخوانها وأصبحت مستقلة عنهم، وكانت تقوم بعملها كمطوفة خير قيام من تأمين الأكل واستقبال للحجاج والتمريض إلى غير ذلك من أعمال الطوافة».
وأشارت المداح إلى أنه في عام 1924 عندما ضم الملك عبد العزيز الحجاز، أمر بإجراء دراسات على الطوافة لتحديد مفهومها وأبرز ما يعترضها من مشكلات وإيجاد الحلول المناسبة لها، وصدر الأمر السامي بالموافقة على نظام وكلاء المطوفين وإنفاذه فاشتد التنافس بين المطوفين مما حدا بالكثير منهم الذهاب إلى بلاد الحجاج ونشر الدعاية لهم فيها، مما أدى إلى اشتراك كل أفراد العائلة ذكورا وإناثا في خدمة الحجاج، حيث توجد أمور خاصة بالمرأة يصعب على الحاجة استشارة الرجل فيها، كما كانت تقدم الضيافة للحاجات واستقبالهن ورعايتهن صحيا واجتماعيا وتوعيتهن دينيا وثقافيا، فعندما كانت تأتي البرقية بوصول الحجاج تقوم بنات المطوف وزوجته بإعداد الطعام وتبخير أواني الشرب وتعبئة المياه استعدادا لاستقبال الحجاج بفرح وسرور رغم التعب والمعاناة التي يتكبدوها طمعا في الجزاء لضيافة ضيوف الرحمن.
وأفادت المداح أن المطوفات كن يصطحبن الحاجات إلى المشاعر المقدسة في منى وعرفات والمزدلفة وتجهيز الأدوات المختلفة للطبخ والتقديم لإعداد الوجبات طوال أيام الحج، بل كانت تقوم بالإشراف على نظافة المخيم وتوفير مستلزمات المعيشة، وكان ضمن أعمال المطوفة أيضا حفظأموال الحاجات وأمانتهن الثمينة حيث لا توجد في تلك الأيام بنوك، كما تقدم لهن الإسعافات الأولية لعلاجهن.
واختتمت بالقول: «إنني إحدى المطوفات وقد مارست العمل في الطوافة وعملت كعضوة في المؤسسات الأهلية التجريبية لتركيا وأوروبا وأستراليا وأميركا، سيكون حديثي عن تجربة شخصية لخدمة حجاج بيت الله الحرام التي أعتبرها شرفا لي لخدمة ضيف الرحمن. فأقول: قد كانت العلاقة علاقة حميمة تبقى بين الحاجات والمطوفة من منظور ثقافي ومعرفي، ومع أهلها وعشيرتها، ويبقى اسمها مسجلا في سجلات وأوراق العائلة، وتحتفظ الحاجة في ذاكرتها باسم المطوفة وأولادها ويتوارث بعدها أولادها وأحفادها تلك الصفات وتمتد جيلا بعد جيل، وهكذا تتوطد العلاقة بين المطوفة والحاجات، كما أن العلاقة كانت تبنى على قواعد وأسس إنسانية ودينية وروحانية وثقافية بالدرجة الأولى، يميزها طيب المعاملة والإخلاص وحسن الخلق. وقد تتطور العلاقة حيث تمتزج الدماء بالمصاهرة والنسب، وهذا سر من أسرار الحج وشرعته وحكمته».