في أحد أيام شهر أكتوبر ، كان هُناك رجل يمكث على عتبات الأرصفة يرتدي معطفهٌ الأسود ، ويحمل بيديه شيء لا يُمكنني معرفته ؛ لأن الظلام عاتماً ،
أردت الاقتراب منه ، لكي أُساعدةٌ إذا كان تائهاً سَأُرشدة وإن كان عاجزاً سَأعطيه .
اقتربت منه وقلت لهٌ :
مساء الخير يا هذا ؟
رد قائلاً : أهلاً ، و مسائك أيضاً .
قُلت : ما بك ؟
قال : لا شيء ، فقط أنتظرها .
قُلت : و ما هذا الذي تحمله ؟ .
قال : هذا كتاب يحتوي ما أكتُبه وما تخُطه أناملي .
قُلت : و لمن تكتُب يا صديق ؟
قال : أكتُب لِجميلة ، يكسوها البرود و تُخيط للإهمال رداء لتُهديه لِحُبنا ولم تعلم إلى الآن أن هذا الرداء لا يُسمن ولا يُغني من جوع ، خاطته بِخيوط الغياب والخُذلان ، لكي يقتل حُبنا .
قُلت : أمرك مُحزن يا هذا ، أهي عمياء لكي تُخيط للإهمال رداء ، لكي تقتل حُبكم ، آسف يا صديق لكن لا أظُنها تُحبك ؟ .
قال : ﻻ ﻻ لا تقول هذا يا صاح ، فهي تُحبني !
كيف لا تُحبني وأنا الذي كُنت لها كُل شيء ؟ ، كيف لا تُحبني وأنا الذي ضحى من أجل إسعادها ومن أجل ابتسامة ثغرها ؟ ، كيف لا تُحبني وأنا الذي أشتاق لِحديثها ولِرؤيتها و لِأحضانها ؟ ، قول لي بِربِك كيف لا تُحبني ؟ وانا من انتظرتها على عتبات الليالي أُجاري الأصحاب وأقول لهم : مهلاً أُقسم لكم أنها سَتعود .
كيف لا تُحبني وأنا أُتمتم لها بِالدعاء في كل صلواتي ؟
كيف لا تُحبني وكيف لي أن لا أُحبها ؟ .
قُلت : حسناً أعتقد أنك مُصاب بداء حُبها .
قال : نعم ، مُصاب بداء حُبها الذي هوى بي إلى درك الحُب ، ولم أستطع أن أجد دواء يِشفيني من هذا الداء ، ولا أُريد حتى أن أُشفى ، أُريد أن أموت في سبيل حُبها فقط .
قُلت : لا أدري يا صديق ماذا أقول لك ؟.
قال : لا تقُل شيء ، فقط أذهب لأن البرد قارص ، وقد تمرض إذا بقيت .
قُلت : و أنت ، ماذا سَتفعل بِهذا البرد ، وهذا المكان الخالي من المارة ؟
قال : لا عليك يا هذا ، لقد اعتدت على هذا المكان وهذا البرد ، فَأنا منذٌ زمان بعيد أمكث هُنا كل ليله ، حتى أن الأرصفة باتت تُعرفني ، وأن القمر ذات يوم باح لي بِسرٍ لهٌ .
قُلت : و ما هوا هذا السر ؟ .
قال : أنا لستُ ممن يفشى سر صديق ، هي اذهب ولا تكثر الأسئلة ، قد أصبحت يديك بيضاء من شدة البرد ، واصطدام اسنانك ببعضها أزعجتني جداً ، هي اذهب .
ذهبتٌ حينها وأنا سارح بِفكري ، كيف أن حُبه عظيم وأنه لم يتعب ولم يمل من الانتظار، فرحت بِأن هُناك حب يعيش بِعالمنا كَمثل هذا الحُب ، أفقت من سرحاني على صوت رجل مُسن قال لي :
ماذا قال لك هذا المجنون ؟.
قلت : ويحك هذا ليس بِمجنون .
قال : أنت لا تعلم ماذا حدث له .
قلت : وماذا حدث ؟
قال : الديك الوقت لِتسمع ؟
قلت : نعم ، سَأنصت لك ، فقط أخبرني ماذا حدث لِذلك الرجل
قال : هذا الرجل الذي تراه أمامك كان من أجمل الشباب ، حتى أن بعض الفتيات قد وقعن في عشقه ، كان قد أحب فتاه تقطن في آخر الحي ، و كان يُقابلها في هذا المكان عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، حين يسكُن المكان ، لا تسمع إلا ضحكاتهم وهمسهم ووعودهم أن لا يعيشوا إلا بِجانب بعضهم البعض ، وذات يوم انتظرها ولم تأتي ، أسرع لِبيتها لعلهٌ يُريح قلبه الذي أوشك على الوقوف من شدة تسارع نبضاته ، علم من أهلها أنها مريضة فمكث بِجانب بابها شهراً كامل ، وفي آخر شهر سبتمبر، قد توفيت ، ومن بعد تلك الليلة أصبح يمكُث على عتبات تلك الأرصفة مُقسماً بِأنها ستعود ذات يوم .
ذهبت أنظر لِذلك الرجل كيف أن الحُب قد يجعل منا أشخاصاً بِلا عقل وبِلا عقيدة ، لكن الحُب دائماً طاغي حتى على النسيان ، وحتى على العقيدة و الأقدار ، الحُب جائر ينزفنا بِلا رحمه ولا شفقة ، يجعلنا نمضي و نتسكع على أبواب النسيان ننتظر منهُ أن نرتشف بعض نبيذ النسيان لكي نسعد بِسلام .