أكد إمام وخطيب جامع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز "رحمه الله" الشيخ : ناصر بن علي القطامي ، أن كل ما كان في القرآن الكريم من مدح للعبد فهو من ثمرة العلم ، وكل ما كان فيه من ذم فهو من ثمرة الجهل ، وأن مايقع هذه الأيام من استحلال الدماء المسلمة الطاهرة ، والأنفس المعصومة ، لهو ثمرة من ثمرات الجهل بأحكام الدين ، وسعة الشريعة ، وسماحة الإسلام ، ونتاج البعدُ عن الالتفاف حول الربانيين من العلماء ، فكلما كان حبل الوصل بالعلماء ممدوداً، والصدور عن آراءهم منهجاً وسلوكاً ، كان الشاب أقرب إلى الحق ، وألزم للصواب ، وأقدر على تصويب خطأه ، وتسديد فكره ، وتقويم منهجه .
موصياً شباب الأسلام ، أن يعلموا أنهم مستهدفون من دول ومنظمات معادية لدينهم وأخلاقهم وأوطانهم ، وأنهم إن لم يتفطنوا ، صاروا العوبة في أيدي أعدائهم ، يسخرونها لتنفيذ أطماعهم ، وتحقيق أجنْداتهم .
جاء ذلك في خطبته اليوم عن " حرمة دم المسلم " التي القاها في جامع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ( رحمه الله ) بمدينة الرياض ، بعد حادث التفجير الإجرامي الذي استهدف مسجد قوات الطوارئ الخاصة بمنطقة عسير جنوب المملكة ، حيث تحدث فيها عن : نشأة خلق الإنسان ، واستعرض النصوص الشرعية في حرمة دم المسلم، وعقوبة الانتحار وإهلاك النفس ، مذكراً بخطر الجهل وقلة العلم الشرعي ، ومسئولية الفرد والمجتمع في محاربة الغلو في الدين ، ومنبّهاً للتفطن لأزمة استغلال المغالين للمصطلحات والتغرير بها .
حيث استفتح خطبته بالتذكير ببديع صنع الله في خلقه قائلا: لله في خلقه إبداعٌ وتصوير، وله في ملكوته تكوينٌ مُذهِلٌ وتقدير، السماوات وعُمَّارُها، والأراضون وسُكَّانُها، والبحار وأعماقُها، وكل ما جرى عليه قدر النشأة وإرادة التكوين، كل أولئك بالغاتٌ من الحُسن أعلاه، ومن الجمال ذُراه، ومن الإبداع غايته ومُنتهاه.
وإن محلَّ الإنسان من ذلك الخَلق، وقَدرَه من ذلك الإبداع هو محلُّ الجوهرة من التاج، ومكان الغُرَّة من الجبين، الإنسان أحسنُ خلق الله تقويمًا، وأعدلُه تسويةً وأحكمُه تركيبًا، وأعظمُه حُرمةً وأكثرُه تكريمًا، ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْويم )
" حرمة دم المسلم "
مبيناً أن الإنسان بُنيان الله، وهو محلُّ التكليف من الخلق، رُوحه وديعةُ الله فيه، ودمُه أمانةٌ تنسابُ في أورِدَته ومجاريه، خلقَه وسوَّاه ، ونفخَ فيه من روحه، فأعظمُ الإثم ، وأشدُّ الجرم: أن يعتدي مُعتدٍ فيهدِم ذلك البُنيان، ويستلِبَ تلك الروح، ويُهدِر ذلك الدم، كائنًا من كان المُعتدِي وكائنًا من كان المُعتدَى عليه.
أما إذا كان المُعتدَى عليه مُسلمًا قد لهَجَ لسانُه بالشهادتين، واطمأنَّ قلبُه بالوحيَيْن، وذلَّتْ جوارِحُه لأحكام الدين؛ فإن العُدوان عليه أشد خطرًا، وأعظمُ وِزرًا؛ لذا كانت حُرمتُه أشدَّ من حُرمة الكعبة، وكان زوالُ الدين أهونَ عند الله من قتل رجلٍ مسلمٍ. رواه الترمذي، والنسائي.
وتابع : إن مكانة الفرد في الإسلام رسالةٌ مُقدَّسةٌ تنزَّلت من رب العالمين: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ، وعيدٌ شديد لا يحتاج إلى شرحٍ أو تعقيب.
لأن الاستهانة بحياة واحدٍ هي استهانةٌ بحياة الناس كلهم، وقتلُ النفس الواحدة هو بمثابة قتل الإنسانية جمعاء .
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم محذراً -: "كل دمٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموتُ كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمِّدًا". أخرجه أبو داود والنسائي ، وقال الحاكم: صحيحٌ الإسناد .
وفي التنزيل العزيز: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء". أخرجه البخاري ومسلم.
قال سعيد بن جبير: مَن استحلّ دمَ مسلم، فكأنما استحلّ دماء الناس جميعاً، ومن حرَّم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً.
" القتل من أعظم الورطات "
لافتاً أن من أعظم الخسارة، وأشد الخذلان: أن يورِّط الإنسان نفسه في دم حرام؛ كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن من وَرَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِلِّه".
" مسئولية الفرد والمجتمع "
وختم إمام وخطيب خادم الحرمين الشريفين خطبته قائلا : إنّ المسؤولية عُظمَى، والجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ومن خرَقَها أغرقَ الجميعَ ، وإنّ التهاونَ والتساهُل يؤدّي إلى انفلاتٍ وفوضَى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤولية ، وخطرِ النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلَّ مخلِص على رفضِ هذه الأعمالِ، وعدَم قَبول أيِّ مُسوِّغٍ لها ، ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها، وليحذر المسلمُ أن يصدُر منه شيءٌ يُثير الفتنة ، أو يسوّغ لهؤلاء وأمثالهم ضلالهم وجهلَهم وإجرامَهم .
" التفطن لأزمة المصطلحات "
ومع يقينِ المؤمن أنّ الله حافظٌ دينَه، ومُعلٍ كلمتَه ، وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليلٍ، إلاّ أنّ المسؤوليّة عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصارمة من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعِها ، والأسماء في مسمَّياتها، فالإسلامُ إسلام، والإجرام إجرامٌ، والإصلاح غيرُ الفَساد، وإيذاءُ المؤمنين وسَفكُ دماءِ المسلمين ، والتجاوز على المعاهَدين غيرَ الجهاد المشروع .
يُذكر أن جامع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز " رحمه الله" أُفتتح غرة شهر رمضان الفائت ، وهو تحت إشراف مؤسسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للأعمال الإنسانية ، وأقيمت فيه العديد من الفعاليات العلمية والخيرية خلال شهر رمضان المبارك ، بإشراف ومتابعة سمو الأمير : تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز ، الرئيس التنفيذي للمؤسسة .
رابط مرئي للخطبة
http://youtu.be/yCK3x7rnnS4?a