• ×

قائمة

Rss قاريء

الضياع..الذي أنجاني من الغرق! " قصة "

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
جدة . بقلم إسراء الصبحي . نبراس 

تفرش الشمس بهجتها على وجه الماء بهدوء... و كأنها تُفشي له سرّا..

تتلألأ حبّات النور... و تدبّ الحياة في تلك القرية البسيطة.. القاطنة على ضفة المحيط.. بأحد جزر جاوا..

يحُلّ (أمين) وثاق مركبه المربوط منذ البارحة في طرف المرفأ..، يبتسم و هو يتأمّل المشهد ذاته كلّ صباح
يسمع طرقات المطرقة المتوالية لأولئك العمّال.. فيما يجدّون في البناء..

و تصله رائحة فرن القرية.. و الناس عليه أفواجًا.. كلٌّ ينتظر نصيبه من الرغيف الساخن..،

.. يلوّح إلى أصدقائه (سليم) و (شاهاوى) .. يُلقي تحيّته عليهم من بعيد..و هما يحملان سلالهم متجهين إلى حقول الأرز المنغمسة في رطوبة النهر الهادئ.. في الجانب الآخر من القرية..

يعتمرُ قبعته الدائرية الكبيرة.. و التي نُسجت من حبال الخصف..

يتفقّد عدته داخل قاربه المتواضع.. ثم يهمس بأدعية سائلا الله أن يُكلّل سعيه اليوم بالنجاح.. و أن يرزقه صيدًا وفيرًا.. فقد كبُرت لديه الهموم.. أصبح وحيدًا في هذه الحياة بعد رحيل والدته منذ شهرين..،

فهو بحاجةٍ الآن إلى أن يُضاعف دخله؛ ليتمكّن من تكوين عش زوجيّة كريم.. و حياة هانئة..

ختم دعواته الصامتة طالبًا الرحمة لوالدته.. ثم شقّ قاربه الصغير طريقه على صفحة الماء..

توسّط البحر.. يُلقي شباكه هنا وهناك... و لكن هدوءًا ساد حركة الحياة في القاع.. شيءٌ قليل.. يكاد أن يكون معدومًا..
ثم بدأت حركة الأمواج تتغيّر... و لون السماء أضحى برتقاليًّا شاحبا..

عدم وضوح في الرؤيا... لم تعد الشمس هنا..، ما الذي يحدث!!

فجأة انقلب الجو...و انكدر صفو البحر و هدوءه... بدأ قاربه الصغير يترنح على غيرِ هدىً... و تاه في لجّة المحيط.. لا يعلم إلى أين سار؟.. و أين طريق العودة!

لاشيء هنا يبدو واضحًا!... فقط كان يحاول الحفاظ على هدوءه.. و يحاول التركيز قدر المستطاع... ليمنع على الأقل قاربه الصغير.. من أن ينقلب به.. فأضحى قاربه كقطعة بسكويت و سط هذا الخضمّ من الأمواج المتلاطمة!

خرق الماء القارب.. فأصبح يثقل شيئًا فشيئًا.. كان (أمين) يستخدم آنية صدئة ليفرغ هذا الماء خارجًا.. حتى لا ينغمر القارب بأكمله..، لقد تعب كثيرًا..

و مضت ساعات... حتى قارب الظلام أن يبتلع تلابيب المشهد.. فرأى هناك ما يبعث على الأمل و النجاة..

رأى صخورًا.. و أعناق نخيل جوز الهند و هي تزيّن شاطئًا ما... بدأ قاربه الصغير بالانغمار داخل المحيط.. فقفز منه و أكمل طريقه سباحة..

هاقد وصل إلى جزيرة أخرى... علّه يضع رِحاله فيها ليرتاح.. ثم يطلب مساعدة من أهلها بعد ذلك..

التصقت حبيبات الرمال البيضاء.. بجسده المبتلّ.. الذي تقطر منه الملابس ..و تثقله... يتجوّل بصره باحثا عن بيوتٍ.. عن أشخاص.. أو عن أحدٍ هنا..

في أول ساعة قضاها قبل أن يُلقي الظلام وشاحه الأخير على هذه الجزيرة.. لم يلقَ أحدًا... غير أنه أحس بحركة هنا.. او هناك.. ولكنه لم يتبيّن شيئًا حتى الآن..

استلقَ أخيرًا... افترش الأرض..و التحف السماء... ثمّ أسلم بصره عاليًا.. يتأمّل لمعان النجوم و أعدادها.. حتى غلبته السِنة.. و تسللّ النوم إلى جفنيه لذيذًا.. بعد يومٍ شاقّ.

أيقظه تغريدٌ عميق لطائرٍ اعتقد أنه المكاو..، و زعيقًا حادًا هناك.. ربما كان قِردًا او ماشابه..

استيقظ جاائعًا جدًا.. تركت الأرض القاسية على جسده المًا.. سرعان ما اختفى حال قيامه..

توضّأ من ماء البحر ثم صلّى الفجر.. و بدأ يبحث عن شخص يُخبره أين هو أصلاً؟

كان يجد في طريقه ثمار الموز و هي تتدلّى بإغراء في صفوفٍ جماعيّة..، فكان يتفكّه من تلك الثمار اللذيذة طِوال طريقه.. حتى أنه وجد ثمارًا تشبه كثيرًا ثمارًا يعرفها غير أنها لذيذة جدًا..

و مرّ يومان و ثلاثة.. حتى اقتنع أخيرًا أنه وحده في هذه الجزيرة.. لا يعلم في أيّ جزءٍ من العالم تقع...، و أن الحركة التي كان يعتقد أنها لأشخاصٍ.. لم تكن إلا حركات لخفافيش.. أو تسلّلاتٍ لقردة..،

لا أحد هنا غيري.. ، صاح بهذه الكلمة الأخيرة كالمجنون على ظهر الجزيرة..

كان طعامه فيها هو الثمار فقط.. لأنه لم يصل حتى الآن لطريقة يُشعل فيه ولا شعلة صغيرة حتى. ليتسنّى له مثلاً شواء الأسماك.. أو إعداد حساء..، خصوصًا و أن الأسماك على شاطئ الجزيرة توجد بوفرة.. و تقفز بكثرة و كأنها تغري صيادها أو تناديه..!

و مضى أكثر من أسبوع.. كان يقضي معظم وقته على الشاطئ علّ سفينة تمرّ من هنا.. أو هنا.. فينادي أحدًا و يطلب النجدة..

منذ أن وصل الجزيرة .. و الأمطار أيضًا لا تنقطع عن هذا المكان.. ، ممّا جعله يُفكّر في إقامة مسكنٍ يأويه،
و فعلاً قطع بعضًا من الأشجار.. و قام بتنسيقها و ترتيبها كسورٍ لبيته الجديد.. ثبتها جيًدا.. و غطّى سقفها ببعض سوق الأشجار الميتة القديمة... و أوراق أشجار الموز..
و استغرق منه بناء كوخه المتواضع قرابة اليومين... أو أكثر ، استرخى أخيرًا داخل مسكنه ينعم بالدفء.. وهو يراقب ضوء الشمس كيف استطاع التسلل من السقف.. رغم محاولته المستميتة لتغطية السقف بالكامل.. يُسدل قبعته على وجهه.. و يغفو قليلاً...
بدأ يُفكّر في الحصول على شعلة بسيطة... ليطهو الطعام.. أو لتعطيه شيئًا من دفئها أو ضوئها..

تذكّر طريقة كان قد أخبره جده بها حين كان صغيرًا.. لكنه لم يجربها.. و لم يحتاج إليها أصلاً..

برد ساق شجر على شكل حاد و ضع تحته العديد من أوراق الشجر.. و بدأ باستخدام الاحتكاك لتوليد النار!

استمرّ لعدة ساعات... حتى نجح أخيرًا إذ رأى دخانًا بسيطًا يظهر.. و رائحة كالاحتراق... حتى ظهرت أخيرًا شعلة النار.. و التي كاد أن يرقص فرحًا لظهورها... جمع بعضًا من الأوراق.. و حاول أن يضع كل هذه الشعلة داخل حفرة صغيرة ليمكنه الاحتفاظ بها.. و اتجه نحو الشاطئ و هو يكاد يطير فرحًا.. ينوي ان يصطاد كثيرًا من الأسماك الشهية..
غاب ساعة عند الشاطئ...حتى حصل على بعضٍ من الأسماك للعشاء.. و لا حظ في طريق العودة ألسنة الدخان و هي تسدّ أفق الجزيرة.. و حدّث نفسه.: كيف لم انتبه لهذا قبل ساعة!

يا الله... و يا للمفاجأة !.. لقد احترق كوخه الذي جدّ في بناءه!.. و قضى في صنعه أيام!

كان يبكي كالطفل من شدة حزنه.. فيما امتدت النار تأكل ما حول الكوخ أيضًا..

ما العمل؟.. كيف يمكنه أن يسيطر على هذا الحريق الذي لو امتدّ سيحرق الجزيرة بأكملها!

يا الله! كيف النجاة..و ماهي السبيل؟؟...

بدأ يصرخ مخاطبًا الله: ماذا فعلت أنا... لتفعل بي هكذا!!

كان يبكي بعينيه الآسيوية المستطيلة...، و قد احمرّت جفونه.. و تقطّع قلبه من شدة الألم..

لا عائلة لدي..! كلّ هذه المدة لم يسأل عني أحد.. !، لا أحد يفتقدني أصلاً.. !

و بعد دقائق ليست بالقصيرة... تلبّدت السماء بالغيوم.. و أرسلت الماء من عليائها.. لتُطفئ هذا الحريق..!

قُبيل الغروب.. سمع صافرة لسفينة لم تكن بعيدة من هنا.. أخذ يجري نحو الشاطئ... و هو لا يكاد يُصدّق عيناه.. نعم لقد كانت السفينة بعِظمها تتجه نحوه!.. إنها أجنبية.. نعم إنهم يقصدونه..

حين صعد معهم أخبروه فيما بعد أنهم قصدوا الجزيرة عنوة.. لأنهم رأوا ألسنة الدخان ففهموا أنها علامة لطلب النجدة..
عاد إلى قريته التي اصبحت أطلالاً.. لمساكنٍ طفت فوق الماء..، عَلم أنه في مساء يوم ضياعه.. أغرق فياضًا قريته و لم يبقَ فيها غير خرابة.

يا الله.. لو أنه كان هنا... لكان من المُغرقين..،

بات تلك الليلة في منازل كانت مُعدّة من قبل الحكومة للمنكوبين من الفيضان الأخير،

كان المأمور يتلو اسمه.. فأجابه بأني أنا (أمين مختار)... قدّم له سجلاً وقّع أمام اسمه.. للحضور غدًا.. لاستلام تعويض مالي من قبل الحكومة.. مقابل المنازل التي فقدوها..

فكّر في أنه سيستلم المبلغ.. و ينتقل للعيش في العاصمة جاكرتا، سيشتري منزلاً متواضعا.. و يكوّن أسرة سعيدة..
و في طريقه للعاصمة كان يجلس في الخلف في سيارة الأجرة و يبتسم حين تداعب مخيّلته الأحداث.. فلو أنه لم يته في المحيط إلى تلك الجزيرة لكان مغرقًا...

و لو أن كوخه الصغير ما احترق.. لما نجا.. و لما عاد..

تنبّه أخيرا إلى أن سائق الأجرة كان يدير المذياع إلى إذاعة القرآن..

و ابتسم حين سمع آية كان يتلوها القارئ.. نعم كان أستاذه يترجمها بلغته حين كان صغيرًا في المسجد..

يعتقد أنه فهم معناها أخيرًا : " و عسى أن تكرهوا شيئًا و هو خيرٌ لكم"

للتقييم، فضلا تسجيل   دخول
بواسطة : سمر ركن
 1  0  684

التعليقات ( 1 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    8 يوليو 2015 12:12 صباحًا Rno Alghamdi :
    ماشاء الله ابداع استمري*