عيده باتيس - الرياض
من أمن العقوبة أساء الأدب، ومن لم يحترم لا يُحترم، ومن يُخطئ لا يُرحم. هم ذلك يقررون! ولإتمام القرار، يقفون مع هذا ضد الآخر أو مع الآخر ضد هذا. لا يهم! المهم أن يحق لهذا ما لا يحق لذاك أو اعتلاء أحدهم في سبيل اتّضاع الآخر.*
"قُم للمعلم وَفِّــهِ التبجيلا. كاد المعلم أن يكون رسولا ...". بيت شعر شهير ولطالما نردده وهو يرسّخ معانيه على معالم*الأنفس والعقول، كخطاباً موجهاً لطلبة العلم بأن يوفوا المعلم حقه من الإحترام والإجلال.*حقاً يستحق معلمينا ومربينا عظيم الإكرام والتقدير والولاء. ولا خلاف في الأمر أنه من الواجبات المستوجبة على كل طالب علم أن يحترم قيمة المعلم مثلما يحترم والديه وألاّ ينتقص من جزل جهوده. فلولا فضل الله على معلمه، لما تدفق عطاءً واستقى ثقافةً وارتوى علماً. ولعلّ في توقير المعلم أنه مختار من الله ليؤتمَن على أمانتيّ العلم وطلبة العلم، مفوَّضاً لنشر النور والفكر والعلم ضمن رسالة نورانية تعليمية. في حين، للطالب حقوق تربوية أيضاً يجب على كل معلم تسليط الضوء عليها إلى جانب التعليم.
كاد المعلم أن يكون رسولا وكدنا نغفل عن جلّ الأبيات المستأنفة على لسان شوقي وهو ينقل خطابه إلى المعلم، موضحاً أهمية دوره التربوي وواجبه في إعداد النشىء على قوام الإنصاف والتوجيه السليم، والذي يساعد بدوره على خلق جيل يتصف بالاستقامة متبعاً السلوك الصحيح فقال:
ربُّوا على الإنصاف فتيان الحمى**
تجدوهم كهف الحقوقِ كهولا*
فهو الذي يبني الطباع قويمةً** **
وهو الذي يبني النفوس عدولا*
ويقيم منطق كل أعوج منطق******
ويريه رأياً في الأمور أصيلا*
"ربّوا" هنا هو فعل أمر بصيغة الإلزام على كل مربي أجيال أن يعمل على تربية الأبناء على العدل لأنهم أجيالاً مدافعة عن أمتها وملجأ للحق في سنين الكهولة. كما أن المعلم هو الذي يصحح المنطق الأعوج أي أنه يفرق بين الصواب والخطأ في الأمور ويجب أن يكون صاحب رأي صائب ومنطقي.*ولأن البستان الجميل لا يخلو من الأفاعي، فإن ليس كل معلم يدرك ثراء رسالته عدلاً بين التربية والتعليم في آن واحد، فنخسر بذلك قيمة الأجيال القادمة حيث أكدّ شوقي:*
وإذا المعلم لم يكن عدلاً مشــــــى*
روح العدالة في*الشباب ضـئيلا*
ولأننا مجتمع لا نكتفي بأحداث العنف الأسري ضد الأبناء ولا نكترث باعتصارهم روحاً ودماً، حرصنا على تهيئة مَربَع آخر أكثر "مردغة" بين الحشد من الزملاء في حقل المدرسة. وبذلك يمكننا مشاهدة الطالب وهو يُعنّف أينما أفلّ، فيهان ويُذلّ، حتى يلهو فيضلّ. والسبب المسبب هنا هو سيادة "العنف المدرسي".
العنف المدرسي هو نطاق واسع من الإعتداءات تقع في الوسط المدرسي، فتمارس بين المعلم والتلميذ أو بين التلميذ والتلميذ أو بين التلميذ والجهاز الإداري بأكمله. ومن أشكال تلك الاعتداءات ما يكون جسدياً باستخدام القوة البدنية على الآخر بشكل متعمد كوسيلة عقاب غير شرعية مما يؤدي إلى إلحاق الضرر فيزيائياً ونفسياً، ومن الأمثلة على الإعتداء الجسدي هو الضرب بالأيدي أو بواسطة أدوات حادة وكذلك الخنق أو الركل والدفع. وقد يكون الإعتداء لفظياً أو ما يسمى بالتواصلي وهو إما أن يتخذ أسلوب حواري سلبي يحمل ألفاظ غير لائقة، أو إنعدام الحوار تماماً واللامبالاة لتعبيرات الآخر مما يؤدي إلى عدم التقبل والرضا. وكلها تؤدي إلى الشكل الثالث من إعتداءات العنف وهو العاطفي أو النفسي، وغالباً ما يكون مهاجمة عنيفة على الوظائف الوجدانية والسلوكية والذهنية.
فما بين معلم أجيال غاضب وطالب علم صاخب، تحتدم صلابة التربية على أروقة التعليم لتكن امتداداً لسوابقها من الأساليب العقابية الناتجة عن نمط سلوكي بربريّ، لا يمت لأسس البناء المجتمعي بصلة. فيبادر المعلم كونه "القدوة التربوية" بتعنيف الطالب أكان جسدياً، لفظياً أم عاطفياً دون إتخاذ أي إجراءات أخرى أكثر لطفاً وتأديباً. ليتسنى له إثبات شخصيته القوية كما يزعم والتي يجب أن يهابها جميع الطلبة.
ولأننا مجتمع نقارن بين الأزمان فتنحدر الأذهان، كيف كانوا آبائنا ونحن من بعدهم نُعنف في زمن يفتقد الوعي التربوي ونتقبل ما يحدث لنا طوعاً منا حتى لو لم نكن نستحق هذا العنف. أما الآن نتباهى بتداول أساليب السخرية على جيل اليوم وإلقاء اللوم عليهم وتشجيع المعلمين على ممارسة العنف ضدهم، فيما لا نفقه مدى قابلية الأجيال للتغيير وفقاً لتغيرات العوامل المحيطة بها البيئية منها والاجتماعية والنفسية. فمتى نعي أن التربية هي عملية التكيف والتفاعل بين الفرد وبيئته الاجتماعية ومظاهرها التي يعيش فيها؟
كما أن مفهوم التربية تحت إقرار جميع الديانات السماوية وفي جميع المجتمعات وتحت كل الأنظمة هي تحصيل للمعرفة فالتنمية فالتقدم فالارتقاء، فيحصل بذلك الإعداد السوي على قيم أخلاقية وتنشئة جيل مهذّب غير مرَهّب، فنحن لا نحصل على السلام بالحرب وإنما بالتفاهم.
وعلى أي مأتى وأياً ما بلغت منزلة المعلم، لا يعني هذا أنه أهلاً لأن يضرب "طالب علم" ويعنف آخر اعتباراً لمنصبه الفوقي في ظل دونية غيره وإرضاء لسيكولوجيته المنتقمة، حاملاً معه حقيبة الأمس مكتظة بالضغينة والحقد على معلمه السابق الذي أساء له قبل عشرون سنة بل يزيدون. والضرب يا "متعلم" ليس حلاً بقدر ما هو اعتداء همجي يفاقم من حدة العناد والتمرد، خاصة لدى طلبة المراحل المتقدمة في سن المراهقة لينتج حصاد سيء الفكر والأخلاق. وما هو إلا اعتراء ألم وأسى عندما يسود العنف على ريعان طفل ملائكي الفطرة، فأيّ قلب انسان يحتمل انتهاك براءة طفولية بتصرفاتها العفوية. بل في إثر ممارسة العنف الجسدي أو اللفظي ضد طفل واحد، يتصدر بعداً آخر ليتولد العنف العاطفي لدى بقية الأطفال في صفه وهم يترقبون بهلع إلى دورهم في حكم الجلد والتعذيب. ذلك أقرب ما يكون إلى استنفار نموهم العاطفي ضد معلمهم. وكردة فعل عكسية يقومون بمحاكاة شناءة الفعل على أفراد أسرتهم وكل من حولهم، ليصل بهم المسار إلى فقدانهم الإحساس بقيمتهم الذاتية. ومن باب أولى أن يتم تدوين اسم ذاك المعلم بين أوراق ذاكرتهم وجدران مستقبلهم ليستمر الحال والمنوال. فكيف لنا أن نبلغ المجد ونحن في بيئة غير صالحة للإعداد النفسي.
فوا أسفاً على الأطر التعليمية وهي تشارف على اندثار أسس الاحترام المتبادل. متمثلة بإدارة مدرسية جديرة فقط بإدارة مقعدها والتخلي عن مسؤولياتها مع نصب كل الأمور على عاتق المعلمين. إلى معلم غير متأهب بصفات شخصية تساعده على تولي المصاعب بصبر وحكمة ورزانة. أما الطالب يفوقهم سوء عندما يأتي من بيئة منزلية تفتقر إلى تعزيز ثقافة الاحترام لدى الأبناء اتجاه من يكبرهم سناً، إضافة إلى غياب الدور التوعوي من قبل الآباء لأبنائهم حول أهمية حب العلم فمن يحب الشجرة يحب أغصانها.
لذا على منظومة التعليم أن تسارع إلى تبني ظاهرة العنف المدرسي بأبعادها المترامية خاصة تلك التي بين المعلم والتلميذ، وتسخيرها إلى مبادئ توعوية مكثفة لجميع من يستظل تحت مظلتها من خلال إقامة كل ما يهدف إلى انتشالها جذرياً. مثل عقد سيمنار حواري بين المعلم والطالب للتوصل إلى فحوى المشكلة ومناقشة الحلول حولها، وكذلك دعوة الآباء للمشاركة في ورش عمل قائمة على المساهمة المتبادلة بين الأهل والمعلم. إضافة إلى تأهيل كل معلم على كيفية إدارة العلاقات وقياس مقدرته الشخصية قبل مباشرته لمهنة التدريس. مع الحرص الواجب على تكليف كل مدير مدرسة على توليه زمام الأمور وتحمله كامل المسؤولية. فرقي المجد يكمن في منظومة متكاملة تحترم مقاييس التربية والتعليم.
دمتم بخير!