أميمة عبد العزيز زاهد
مدربة تربوية ومستشارة إعلامية
عدت للكتابة عنك يا حبيبي الغائب، عدت إليك بعد طول انقطاع. وتفكيري بك لم يغب ولو للحظات، وشوقي لم يرحمني، وحنيني لك لم يخبُ، واحتياجي لوجودك معي في ازدياد. يا أول حب عرفته في حياتي، فمنك عرفت الحب... الحب في أجمل معانيه... يا من بين ذراعيه شعرت بالحنان، وفي حضنه لمست الأمان، وتذوقت تحت ظله أحلى لحظات السعادة... ففي وجودك لم أكن أحمل همّاً للأيام القادمة، ولم أكن أهتم بما يقال أو يُفعل بي، فإحساسي بأن لي أباً كان يدعمني ويحميني، ويردّ اعتباري، عندما ينكسر جناحي، كنت لي الدرع القوية والحصن المنيع لكل من يحاول أذيتي وجرحي أو اتهامي، وكلي ثقة بأن لي قلباً وسنداً وظهراً يسدّ عني أي خطر، ويدفع عني أي مكروه، ويبعد عني كل ما يكدر صفو حياتي. أحادثك عبر كلماتي ومع نفسي وذاتي، أشعر بك في كل نجاح وفشل، وأراك في كل موقع أو مكان، وفي آخر زيارة لي لمدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذهبت حيث ترقد هناك بإذن الله بسلام؛ لأراك، وأدعو لك ولجميع موتى المسلمين بأن تقف فوق قبر إنسان تحبه كثيراً، وقد كان يعني لك كل شيء.. يعني لك الكثير.. ثم تحدثه.. تحاوره.. تصف له طعم الحياة في غيابه، ولون الأيام بعد رحيله... وتجهش في البكاء، كطفل رضيع، بكاءً مريراً من الأعماق.
وقفت من بعيد، ونظرت حيث رهبة المكان وسكونه، حدثتك عن كل ما يجول في خاطري، وشكوت لك عن الكثير والكثير، وأخبرتك عن آخر أحوالنا وما حدث فيها. نعم لقد أخبرتك لحظتها بأننا مازلنا كما كنت تتمنى، بارين بأمنا -حفظها الله لنا- ولا نزال متماسكين متحابين متعاونين ومتعاطفين في إخوتنا، كما كنا نراك مع إخوتك دائماً، وأخبرتك بأننا لا نزال نعيش في خيرك.
لقد كنت القلب الكبير الذي خسرناه، والحب الغالي الذي فقدناه.. فجفّ ينبوع العطاء الذي كان يغدقنا حباً، وجف نهر الحنان الذي كان يمدنا أملاً... فقدناك ولم نفتقدك.. فقد رحل جسدك ولم ترحل ذكراك ولا نسماتك.. فقلبي يبكيك، وجوارحي تناديك، لقد عشت حياتك معنا حبيباً فأحببناك.. وبطيبة قلبك عهدناك، وبحب الجميع ألفناك. وإني لا أزكيك على الله، ولكني أشهد بأنك كنت نعم الأب؛ بأخلاقك، وعطفك، وحكمتك، وعدلك، وإنصافك، وعطائك في أقوالك وتصرفاتك، ففارقت عيوننا ولم تغادر قلوبنا. وكما لم تكلف علينا يوماً أو تجهدنا في حياتك، لم تتعبنا حتى في مرضك، وكم كانت سريعة لحظات فراقك، فقد كنا نتمنى أن نخدمك، ونجلس تحت قدميك؛ لتزيدنا من دعواتك، ولكن أبيت حتى أن تحمّلنا أي مشقة، ولا أزال أذكر آخر ساعة لك وأنت معنا وبيننا، نحيطك من كل جانب، وما هي إلا لحظات حتى ودعتنا، ويا له من وداع أليم علينا!! رحلت ونحن نصبّر أنفسنا بأن لكل أجل كتاب، فأنت الآن تعلم ولا تعمل، ونحن في هذه الدنيا لا نزال نعمل ولا نعلم، وتمر بنا الأحداث تلو الأحداث دون وجودك، ونجتمع، ولا ينقصنا سوى جسدك بيننا وصوتك معنا فقط؛ لأننا نحس بروحك تحوم من حولنا، وأنفاسك تتمازج مع أنفاسنا، والحب الذي تعلمناه منك يتجسد في كل تصرفاتنا.
إن فقد الأعزاء ابتلاء، ولا نملك أمام إرادة الله -الذي لا راد لقضائه، ولا معقّب على حكمه- إلا الدعاء لهم بالرحمة، ولنا بالصبر.