الأستاذة كوزيت الخوتاني
إن منزلة الأخلاق في دين الله تقع في مركز دائرة الشرائع الإلهية، وليست هامشية تقع على أطرافها، وإن الأخلاق في دين الله متجذّرة ومتصلة ومتشابكة مع كل مجالات التديّن، فالأخلاق متصلة بالإيمان والعقيدة ومتصلة بالعبادات ومتصلة بالمعاملات المالية ومتصلة بالأحوال الشخصية ومتصلة بالدعوة إلى الله، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ومن أعظم ما مدح الله به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم مدحه في أخلاقه حينما قال له: (وإنك لعلى خلق عظيم).
لـــــيس الجمــــــــال بمنذر
فأعلم وإن لبست بــــــــــــردًّا.
إن الجمــــــــــــــال مــــآثر
ومنـــاقب أورثــــــــته حـــمدًا.
والخلق الحسن هو عنوان الإيمان الصّادق ، يقول ابن القيّم رحمه الله : " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان ".
يؤكد هذا القول، جوابُ الصحابي الجليل، جعفر بن أبي طالب يوم كان في الحبشة، والنجاشي يسأله عن حقيقة هذا الدين، فيقول :" أيّها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.. ".
حسن الخلق طيب الكلمة ، ولين الجانب ، وطلاقة الوجه، وقلة النفور ، وسلامة القلوب من الأذى والشرور، واحتمال ما يكون من الناس من زلة ، وإن لا يغضب ولا يحقد عند الخطأ، فإذا فعل ذلك صفت القلوب، وقلت العداوة، وتسهلت الأمور، واللين للناس في الكلام ، والبذل في العطاء والإكرام ، وكظم الغيظ عند الزلة والخصام ، وحسن الخلق إن تتحمل ما يكون من الناس من الخطأ ، فلا لسان يشتم ، ولا يد تبطش ، فإذا فعلت ذلك كنت من أكمل المؤمنين إيمانا وعظم منزلة وشأنًا.
وإني لألقى المــــــرء أعلم أنه
عدو وفي أحشائه الضغن كامن.
فأمنحه بشرا فيرجــــــــع قلبه
سليمًا وقد ماتت لديه الضغائن.
ما أحوجنا نحن المسلمون إلى الاتصاف بالأخلاق الحميدة ، والخلال الجليلة ، ما أحوجنا إلى طهر الألسنة ، ما أحوجنا الى طهارة القلوب ، ما أحوجنا إلى البعد عن الغش والبذاء، وإزالة الحقد والبغضاء، فان المسلمين متى تألفت قلوبهم ، وحسنت معاملتهم ، كانوا كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه
فبشر وأما وعــــده فجميل.
عيّي عن الفحشاء أما لسانه
فعــف وأما طرفــه فجميــل.
إن من أخطر ما يضر الأخلاق ويفسد السلوك ويدمّر الفضائل حب الدنيا، فهو رأس كل بليّة، من أجلها يغشّ التجار، ومن أجلها يخون الناس الأمانات، بسبب حبّ الدنيا تُنكث العهود، وتجحد الحقوق، بسببها تنسَى الواجبات، وتستباح المحرمات، من أجل حب الدنيا يكذب العباد ويزوّرون، ومن أجلها تداس القيم ويباع الدين والشرف والعرض.
وميزان الخلق لا يتغير مع اختلاف الزمان، فالخير يبقى خيرًا أبدًا، والشر يبقى شرًا أبدًا، والفضيلة تبقى فضيلة إلى يوم القيامة. فالسفور والتبرج مثلاً شر أبدًا، وهو دنس ورذيلة، ولا يتغير في زمن آخر على أنه تقدّم ورقيّ وفضيلة، وإلا اختلّ ميزان الأخلاق، وتعرضنا لسخط العليم الخلاّق. والوفاء بالوعود والانضباط بالمواعيد خير أبدًا، وسيبقى خيرًا إلى يوم القيامة مهما تغير الزمان.
وختامًا: إن العالم بأسره يرمقكم عن بعد، ويخالطكم عن قرب، فإذا رأوا الأيدي المتوضئة تقف عن الشبهات والدنايا ورأوا سناء قلوبكم ورقة طباعكم ونزاهة نياتكم والصدق في معاملاتكم دخلوا في دين الله أفواجًا، وإذا رأوا عكس ذلك كنّا سببًا في شرود الناس عن الدين بسبب سوء أخلاقنا وجفاء تعاملنا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمّ بها شعثنا، وردّ بها الفتن عنا.