د. عدنان بن سعد محمد صغير ــ الباحث والخبير الاستراتيجي الدولي
تابعت الشأن اليمني منذ أكثر من 35 عاما أو أكثر بكل دقائقه وتفاصيله ... كنت أدرك يقيناً أن اليمن تتجه إلى الهاوية ، وأن النار تحت الرماد ، وأن اليمن مقبلة بكل تأكيد على أحداث كبرى مدوية . إما أن تنتشلها ، وإما تطوح بها . كانت المؤشرات على ذلك كثيرة جداً وواضحة ، وأولها وأكثرها وضوحا هو ذلك النظام الحاكم الجاهل المستبد ، المتسم بالصلف والعناد والتغريد خارج السرب العربي والحضاري .. إلى جانب كثير من المؤشرات التي يعتبر النظام أيضا هو المتسبب فيها ؛ كالفقر والجهل وتدهور الاقتصاد والعملة ، والتعليم والصحة وتفشي الفساد الإداري والمالي وإخفاء الثروات ، وعدم استثمار الموارد اليمنية الزاخرة ، وعدم الاستفادة من الموقع الجغرافي والتنوع المناخي ، والسواحل الممتدة والطبيعة الخلابة ؛ مما جعل اليمنيين يهاجرون بأعداد كبيرة خارج حدود بلادهم ، ويمارسون المهن التي تعتمد على الكد والكدح والدخل المحدود لا على العلم والخبرة ، باستثناء عدد قليل من اليمنيين الذين استقروا لسنوات طويلة خارج بلادهم فتعلموا وتطوروا ومارسوا التجارة وبعض الأنشطة الأخرى . وبالرجوع بالذاكرة إلى أكثر من خمسة وثلاثين عاما ، كنت استمع إلى الحوارات الدائرة في المحيط اليمني ، وكنت أتابع الأحداث السياسية التي تسيطر على اليمن فكان الأبرز هو الاغتيالات السياسية المتكررة على مستوى اليمن الشمالي وكذلك الجنوبي ، وكلما ظهر رئيس يستبشر به الناس يتم اغتياله ، كنت صغيرا ولكنني كنت أستمع إلى ذلك كله وأستوعبه تماماً ، وكان جل حديث اليمنيين أن " اليمن سوف يتحسن " تلك العبارات التي سمعتها آلاف المرات ، ولكنها كانت مجرد آمال وأمنيات تضيع في خضم الفتن المتلاحقة . كان اليمنيون المغتربون يتابعون كل صغيرة وكبيرة في اليمن ويهتمون ويغتمون لذلك ، ولكن كان المستوى الثقافي لكثير منهم يجعلهم لا يقرؤون الأحداث قراءة واعية ، ولا يدركون حقائق الأمور ، وحقائق التردي المستمر للأوضاع . في حرب الخليج وقف رئيس اليمن آنذاك علي عبدالله صالح موقفا مخالفا للعقل والمنطق ، وخالف دول الجوار التي ساندت الحق والشرعية الدولية ؛ ومع أن بعض الدول العربية وقفت في بداية الأمر في ذات الموقف إلا أنها جميعا تراجعت عن مواقفها وأيدت الجهود الدولية لتحرير الكويت ، أو على الأقل سكتت ولم تعلن اعتراضها ، إلا الحكومة اليمنية ؛ فقد كانت تعارض الإجماع الدولي الواضح ، وكانت الحكومة اليمنية تتبنى المواقف المخالفة وتصرح بذلك وتعلن العداء لدول الخليج . بعد ذلك بسنوات حدث نوع من التقارب بين اليمنين الشمالي والجنوبي ، وحدثت كثير من اللقاءات التي انتهت بحرب ضروس بين الدولتين انتهت باتحاد بين اليمنين ؛ وكانت المشكلة الكبرى أن هذا الاتحاد قد تم بطريقة فيها نوع من الإكراه لكثير من القوى الجنوبية ، بل وإقصاء واضح لحكومة الجنوب ، ومع أن هذه الوحدة تمثل قوة واتحادا للشعب اليمني والعربي ؛ إلا أن الشكوى كانت دائماً مستمرة ؛ فالجنوبيين يؤكدون عدم الاستفادة من هذه الوحدة ، والشماليون كانوا أيضا يشكون من استنزاف ثرواتهم وصرفها في الجنوب ؛ والحقيقة أن الشمال والجنوب كانوا خاسرين ، وكان المستفيد الوحيد هو الرئيس السابق على عبدالله صالح ومن حوله من كبار المسؤولين المتنفذين . ظل التدهور المستمر هو سيد الموقف وظل نمو الفساد بكل أشكاله هو المسيطر ؛ وكان الشعب اليمني يصبر ويحتمل ويكدح ويغترب وينتظر الفرج والأمل ، وكان الكثير من اليمنيين يأملون في انضمام اليمن لدول الخليج ، وينتظرون دعما أكثر من دول الخليج ؛ التي كانت تقدم الدعم المستمر لليمن حكومة وشعبا ، ولكنها كانت تتلقى نكران الجميل والمواقف السلبية من الحكومة اليمنية ؛ مما أجل وأخر هذا الاندماج . وتم ضم اليمن لدول الخليج في بعض المجالات على أمل الضم الكامل لاحقاً ؛ ولكن الفجوات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية بين دول الخليج وبين الحكومة اليمنية كانت العقبة المؤدية إلى تأخر الاندماج الكامل لليمن مع دول الخليج ؛ مع أن الشعب اليمني في أغلبه شعب مقبول ومرحب به خليجياً ، بل إنه يعتبر أقرب الشعوب العربية في عاداته وتقاليده إلى دول الخليج ، كما أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن يمثل عمقا استراتيجيا مهماً للجزيرة العربية بأكملها . ولكن المتتبع الدقيق للشعب اليمني ثقافيا وفكريا واقتصاديا ؛ يلاحظ أن هذا الشعب يسجل تراجعاً إلى الخلف مع مرور السنوات ، ولقد اطلعت على بعض الدراسات الدولية الرسمية التي تؤكد تراجع التعليم والصحة ودخل الفرد اليمني إلى مستويات متدنية للغاية على الصعيد العربي ، والغريب أن كثيرا من أبناء اليمن ومع كل هذه المعاناة التي سببتها لهم الحكومة اليمنية ؛ إلا أنهم كانوا يكنون ويظهرون الحب والولاء لهذه الحكومة التي كانت تدغدغ مشاعرهم بالعبارات الرنانة ، ولكنها كانت تخنقهم وتعبث بمقدراتهم ، وتقمع كل صوت عقلاني متزن بينهم . وعندما تبحث عن ملامح الحضارة الحديثة في اليمن لا تكاد تجدها أبداً ، باستثناء بعض المشاريع التي تصب في جيوب النظام الحاكم . تراجعت التجارة والزراعة والإنتاج اليمني ، وتفشى الفساد في كل مكان . وجاء الربيع العربي ؛ فكان للشعب اليمني أمنياته ، وتطلعاته إلى الحرية والعلم والتطور الحقيقي ؛ فسخر علي عبدالله صالح قضه وقضيضه لإسكات صوت الحق الذي صدعوا به ؛ فلجأ إلى مختلف الأسلحة والأساليب التي عجزت عن مواجهة تلك الصدور اليمنية العارية الأبية المصرة على تلمس الحرية والكرامة . وعزف الرئيس أسوأ وأبشع السمفونيات واتهمهم بالعمالة والإرهاب ، ورقص على رؤوس الأفاعي ؛ فتبنى الإرهاب مسلكا لتثبيت الأركان ، فكان يدعم التناقضات والحزبيات المتضادة ، ويستغل دول الجوار والرأي العالمي ، ويبتز الجميع في الداخل والخارج ليعزز موقفه المالي وتجارته الدولية المليارية ، وليعزز قمع الديموقراطية وتوريث الحكم ؛ مع أنه في جمهورية تتحدث عن الديموقراطية ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، وحاول تكريس جميع الجهود الظالمة والجاهلة لتحقيق التسيد والسيطرة على الوضع الداخلي ، وتحالف مع جميع الشياطين من أجل تثبيت حكمه ، ومن أجل مواصلة تجهيل شعب عربي حر أبي وعزيز ؛ حتى بلغت به الأمور حد التعاون مع شرذمة الحوثيين كواحدة من الأفاعي التي اعتاد الرقص على رؤوسها ، ونسي أو تناسى أنها ليست سوى دمية للمد الفارسي الأعمى والبغيض ــ الذي تنكر للحضارة الإسلامية التي أنقذته من عبادة النار ، وهدته إلى عبادة الواحد القهار ــ ومن خلال الضبع الحوثي ؛ ولغت هذه الشرذمة في دماء اليمنيين واقتاتت الغدر وتنفست الكذب ؛ فأوهمت الشعب اليمني بأنها قادمة لإنقاذهم من الغلاء والتخلف والرجعية ، وحاولت ارتداء عباءة الطهر والنقاء ، وعندما تصدى لها بعض اليمنيين الأحرار والأشراف ، وكشفوا زيف ادعاءاتها ؛ تعاونت مع الرئيس المخلوع ، وبعض المرتزقة من قياداته ، وقتلت منهم من قتلت ، ونكلت بمن تمكنت من القبض عليهم ، وفر بعضهم ونجا من أنياب ومخالب الحوثيين ومن شايعهم . وأخذ الحوثيون يحتلون المحافظات والمدن و المناطق اليمنية ، ويقمعون كل من يخالفهم فكرا ومذهبا ، ويسحقونهم بكل بشاعة ، ويعلنون استهتارهم واستهزاءهم بكل قوانين ونظم العالم ، بل ويضحكون ويتشدقون ويستخفون بكل الأعراف الدولية على مختلف المنابر الإعلامية ، ويعلنون نيتهم للتوسع ويهددون السعودية ، وبقية دول الخليج ، وكان العالم كله ينظر إلى ما يحدث في اليمن ويدعوا الحوثيين إلى الحوار ، وكانوا يخوضون الحوارات ولا يلتزمون أبدا بأي اتفاقيات . ويحاورن على الطاولة ويقتلون في الميدان ، ويكدسون مختلف الأسلحة ، ويقمعون الشرعية والحرية ، ويواصلون الاستخفاف بكل العالم ، وجاء التدخل العربي الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية في لحظة مفصلية وتأريخية حاسمة ، أوقفت هذا العبث والتردي والتدهور بإطلاق "عاصفة الحزم" التي عصفت بآمال الحوثيين وكل متخلف شايعهم ، وشرحت صدور قوم مؤمنين داخل اليمن وخارجه ، وأعادت الأمور إلى نصابها ، وكان لابد لمثل هذا العمل الشريف أن ينطلق ، وإلا لحدث مالا تحمد عقباه ، ولكانت الأمور اسوأ وأسوأ ، ولكانت الطامة أشد وأعنف . وبالعودة إلى تتبعي لأحوال اليمن الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال ؛ فإنني على يقين بأن اليد العربية والإسلامية التي امتدت لليمن هي خير يد ، وأن النية الدافعة هي خير النوايا ، وأن اليمن وصل إلى مستوى من التأخر والتفكك الذي ليس بعده سوى أحد طريقين لا ثالث لهما ؛ أولهما هو المحرقة والدمار والانهيار التام ، وثانيهما هو بداية العودة إلى الطريق الصحيح ؛ طريق البناء والتطور والاندماج والانسجام مع دول الجوار والعالم المتحضر ؛ وهو ما بادرت به الدول المتحالفة التي قادت عاصفة الحزم الميمونة لتنقذ الغريق اليمني ، وتنتشله من بين الأمواج المتلاطمة ومن بين الأسماك والحيتان المفترسة ؛ لتأخذه إلى شاطئ الأمان والاستقرار . نسأل الله عز وجل أن تحقق عاصفة الحزم أهدافها العظيمة ، وأن يلهم شرفاء اليمن إلى سرعة التعاون والاستجابة لنداءات الحكومة الشرعية لقطع الطريق على أعداء اليمن الحقيقيين الحاقدين . ولتجنيب اليمن من الفرقة والانقسام والاقتتال . اللهم احفظ اليمن وأهلها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وتآمر المتآمرين . اللهم احفظهم صغارا وكبارا رجال ونساء ، وارزقهم الأمن والأمان ، والطمأنينة في الأوطان ، ووفقهم إلى ما فيه خيرهم وخير بلادهم ، وخير الأمة الإسلامية والعربية .