
تابعت الشأن اليمني منذ أكثر من 35 عاما أو أكثر بكل دقائقه وتفاصيله ... كنت أدرك يقيناً أن اليمن تتجه إلى الهاوية ، وأن النار تحت الرماد ، وأن اليمن مقبلة بكل تأكيد على أحداث كبرى مدوية . إما أن تنتشلها ، وإما تطوح بها . كانت المؤشرات على ذلك كثيرة جداً وواضحة ، وأولها وأكثرها وضوحا هو ذلك النظام الحاكم الجاهل المستبد ، المتسم بالصلف والعناد والتغريد خارج السرب العربي والحضاري .. إلى جانب كثير من المؤشرات التي يعتبر النظام أيضا هو المتسبب فيها ؛ كالفقر والجهل وتدهور الاقتصاد والعملة ، والتعليم والصحة وتفشي الفساد الإداري والمالي وإخفاء الثروات ، وعدم استثمار الموارد اليمنية الزاخرة ، وعدم الاستفادة من الموقع الجغرافي والتنوع المناخي ، والسواحل الممتدة والطبيعة الخلابة ؛ مما جعل اليمنيين يهاجرون بأعداد كبيرة خارج حدود بلادهم ، ويمارسون المهن التي تعتمد على الكد والكدح والدخل المحدود لا على العلم والخبرة ، باستثناء عدد قليل من اليمنيين الذين استقروا لسنوات طويلة خارج بلادهم فتعلموا وتطوروا ومارسوا التجارة وبعض الأنشطة الأخرى . وبالرجوع بالذاكرة إلى أكثر من خمسة وثلاثين عاما ، كنت استمع إلى الحوارات الدائرة في المحيط اليمني ، وكنت أتابع الأحداث السياسية التي تسيطر على اليمن فكان الأبرز هو الاغتيالات السياسية المتكررة على مستوى اليمن الشمالي وكذلك الجنوبي ، وكلما ظهر رئيس يستبشر به الناس يتم اغتياله ، كنت صغيرا ولكنني كنت أستمع إلى ذلك كله وأستوعبه تماماً ، وكان جل حديث اليمنيين أن " اليمن سوف يتحسن " تلك العبارات التي سمعتها آلاف المرات ، ولكنها كانت مجرد آمال وأمنيات تضيع في خضم الفتن المتلاحقة . كان اليمنيون المغتربون يتابعون كل صغيرة وكبيرة في اليمن ويهتمون ويغتمون لذلك ، ولكن كان المستوى الثقافي لكثير منهم يجعلهم لا يقرؤون الأحداث قراءة واعية ، ولا يدركون حقائق الأمور ، وحقائق التردي المستمر للأوضاع . في حرب الخليج وقف رئيس اليمن آنذاك علي عبدالله صالح موقفا مخالفا للعقل والمنطق ، وخالف دول الجوار التي ساندت الحق والشرعية الدولية ؛ ومع أن بعض الدول العربية وقفت في بداية الأمر في ذات الموقف إلا أنها جميعا تراجعت عن مواقفها وأيدت الجهود الدولية لتحرير الكويت ، أو على الأقل سكتت ولم تعلن اعتراضها ، إلا الحكومة اليمنية ؛ فقد كانت تعارض الإجماع الدولي الواضح ، وكانت الحكومة اليمنية تتبنى المواقف المخالفة وتصرح بذلك وتعلن العداء لدول الخليج . بعد ذلك بسنوات حدث نوع من التقارب بين اليمنين الشمالي والجنوبي ، وحدثت كثير من اللقاءات التي انتهت بحرب ضروس بين الدولتين انتهت باتحاد بين اليمنين ؛ وكانت المشكلة الكبرى أن هذا الاتحاد قد تم بطريقة فيها نوع من الإكراه لكثير من القوى الجنوبية ، بل وإقصاء واضح لحكومة الجنوب ، ومع أن هذه الوحدة تمثل قوة واتحادا للشعب اليمني والعربي ؛ إلا أن الشكوى كانت دائماً مستمرة ؛ فالجنوبيين يؤكدون عدم الاستفادة من هذه الوحدة ، والشماليون كانوا أيضا يشكون من استنزاف ثرواتهم وصرفها في الجنوب ؛ والحقيقة أن الشمال والجنوب كانوا خاسرين ، وكان المستفيد الوحيد هو الرئيس السابق على عبدالله صالح ومن حوله من كبار المسؤولين المتنفذين . ظل التدهور المستمر هو سيد الموقف وظل نمو الفساد بكل أشكاله هو المسيطر ؛ وكان الشعب اليمني يصبر ويحتمل ويكدح ويغترب وينتظر الفرج والأمل ، وكان الكثير من اليمنيين يأملون في انضمام اليمن لدول الخليج ، وينتظرون دعما أكثر من دول الخليج ؛ التي كانت تقدم الدعم المستمر لليمن حكومة وشعبا ، ولكنها كانت تتلقى نكران الجميل والمواقف السلبية من الحكومة اليمنية ؛ مما أجل وأخر هذا الاندماج . وتم ضم اليمن لدول الخليج في بعض المجالات على أمل الضم الكامل لاحقاً ؛ ولكن الفجوات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية بين دول الخليج وبين الحكومة اليمنية كانت العقبة المؤدية إلى تأخر الاندماج الكامل لليمن مع دول الخليج ؛ مع أن الشعب اليمني في أغلبه شعب مقبول ومرحب به خليجياً ، بل إنه يعتبر أقرب الشعوب العربية في عاداته وتقاليده إلى دول الخليج ، كما أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن يمثل عمقا استراتيجيا مهماً للجزيرة العربية بأكملها . ولكن المتتبع الدقيق للشعب اليمني ثقافيا وفكريا واقتصاديا ؛ يلاحظ أن هذا الشعب يسجل تراجعاً إلى الخلف مع مرور السنوات ، ولقد اطلعت على بعض الدراسات الدولية الرسمية التي تؤكد تراجع التعليم والصحة ودخل الفرد اليمني إلى مستويات متدنية للغاية على الصعيد العربي ، والغريب أن كثيرا من أبناء اليمن ومع كل هذه المعاناة التي سببتها لهم الحكومة اليمنية ؛ إلا أنهم كانوا يكنون ويظهرون الحب والولاء لهذه الحكومة التي كانت تدغدغ مشاعرهم بالعبارات الرنانة ، ولكنها كانت تخنقهم وتعبث بمقدراتهم ، وتقمع كل صوت عقلاني متزن بينهم . وعندما تبحث عن ملامح الحضارة الحديثة في اليمن لا تكاد تجدها أبداً ، باستثناء بعض المشاريع التي تصب في جيوب النظام الحاكم . تراجعت التجارة والزراعة والإنتاج اليمني ، وتفشى الفساد في كل مكان . وجاء الربيع العربي ؛ فكان للشعب اليمني أمنياته ، وتطلعاته إلى الحرية والعلم والتطور الحقيقي ؛ فسخر علي عبدالله صالح قضه وقضيضه لإسكات صوت الحق الذي صدعوا به ؛ فلجأ إلى مختلف الأسلحة والأساليب التي عجزت عن مواجهة تلك الصدور اليمنية العارية الأبية المصرة على تلمس الحرية والكرامة . وعزف الرئيس أسوأ وأبشع السمفونيات واتهمهم بالعمالة والإرهاب ، ورقص على رؤوس الأفاعي ؛ فتبنى الإرهاب مسلكا لتثبيت الأركان ، فكان يدعم التناقضات والحزبيات المتضادة ، ويستغل دول الجوار والرأي العالمي ، ويبتز الجميع في الداخل والخارج ليعزز موقفه المالي وتجارته الدولية المليارية ، وليعزز قمع الديموقراطية وتوريث الحكم ؛ مع أنه في جمهورية تتحدث عن الديموقراطية ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، وحاول تكريس جميع الجهود الظالمة والجاهلة لتحقيق التسيد والسيطرة على الوضع الداخلي ، وتحالف مع جميع الشياطين من أجل تثبيت حكمه ، ومن أجل مواصلة تجهيل شعب عربي حر أبي وعزيز ؛ حتى بلغت به الأمور حد التعاون مع شرذمة الحوثيين كواحدة من الأفاعي التي اعتاد الرقص على رؤوسها ، ونسي أو تناسى أنها ليست سوى دمية للمد الفارسي الأعمى والبغيض ــ الذي تنكر للحضارة الإسلامية التي أنقذته من عبادة النار ، وهدته إلى عبادة الواحد القهار ــ ومن خلال الضبع الحوثي ؛ ولغت هذه الشرذمة في دماء اليمنيين واقتاتت الغدر وتنفست الكذب ؛ فأوهمت الشعب اليمني بأنها قادمة لإنقاذهم من الغلاء والتخلف والرجعية ، وحاولت ارتداء عباءة الطهر والنقاء ، وعندما تصدى لها بعض اليمنيين الأحرار والأشراف ، وكشفوا زيف ادعاءاتها ؛ تعاونت مع الرئيس المخلوع ، وبعض المرتزقة من قياداته ، وقتلت منهم من قتلت ، ونكلت بمن تمكنت من القبض عليهم ، وفر بعضهم ونجا من أنياب ومخالب الحوثيين ومن شايعهم . وأخذ الحوثيون يحتلون المحافظات والمدن و المناطق اليمنية ، ويقمعون كل من يخالفهم فكرا ومذهبا ، ويسحقونهم بكل بشاعة ، ويعلنون استهتارهم واستهزاءهم بكل قوانين ونظم العالم ، بل ويضحكون ويتشدقون ويستخفون بكل الأعراف الدولية على مختلف المنابر الإعلامية ، ويعلنون نيتهم للتوسع ويهددون السعودية ، وبقية دول الخليج ، وكان العالم كله ينظر إلى ما يحدث في اليمن ويدعوا الحوثيين إلى الحوار ، وكانوا يخوضون الحوارات ولا يلتزمون أبدا بأي اتفاقيات . ويحاورن على الطاولة ويقتلون في الميدان ، ويكدسون مختلف الأسلحة ، ويقمعون الشرعية والحرية ، ويواصلون الاستخفاف بكل العالم ، وجاء التدخل العربي الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية في لحظة مفصلية وتأريخية حاسمة ، أوقفت هذا العبث والتردي والتدهور بإطلاق "عاصفة الحزم" التي عصفت بآمال الحوثيين وكل متخلف شايعهم ، وشرحت صدور قوم مؤمنين داخل اليمن وخارجه ، وأعادت الأمور إلى نصابها ، وكان لابد لمثل هذا العمل الشريف أن ينطلق ، وإلا لحدث مالا تحمد عقباه ، ولكانت الأمور اسوأ وأسوأ ، ولكانت الطامة أشد وأعنف . وبالعودة إلى تتبعي لأحوال اليمن الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال ؛ فإنني على يقين بأن اليد العربية والإسلامية التي امتدت لليمن هي خير يد ، وأن النية الدافعة هي خير النوايا ، وأن اليمن وصل إلى مستوى من التأخر والتفكك الذي ليس بعده سوى أحد طريقين لا ثالث لهما ؛ أولهما هو المحرقة والدمار والانهيار التام ، وثانيهما هو بداية العودة إلى الطريق الصحيح ؛ طريق البناء والتطور والاندماج والانسجام مع دول الجوار والعالم المتحضر ؛ وهو ما بادرت به الدول المتحالفة التي قادت عاصفة الحزم الميمونة لتنقذ الغريق اليمني ، وتنتشله من بين الأمواج المتلاطمة ومن بين الأسماك والحيتان المفترسة ؛ لتأخذه إلى شاطئ الأمان والاستقرار . نسأل الله عز وجل أن تحقق عاصفة الحزم أهدافها العظيمة ، وأن يلهم شرفاء اليمن إلى سرعة التعاون والاستجابة لنداءات الحكومة الشرعية لقطع الطريق على أعداء اليمن الحقيقيين الحاقدين . ولتجنيب اليمن من الفرقة والانقسام والاقتتال . اللهم احفظ اليمن وأهلها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وتآمر المتآمرين . اللهم احفظهم صغارا وكبارا رجال ونساء ، وارزقهم الأمن والأمان ، والطمأنينة في الأوطان ، ووفقهم إلى ما فيه خيرهم وخير بلادهم ، وخير الأمة الإسلامية والعربية .