في حياتنا مواقف كثيرة تفرحنا ومثلها تسوؤنا ، منها ما تخلُد في الذهنِ ولا تنسى ، ومنها ما لا تستوقفنا ولا نلقي لها بالاً ، إما لعدم اهتمامنا أو انعدام مسؤوليتنا فيها أو عدم معرفة قدر مسؤوليتنا تجاهها .
كنت في يوم ما عند محاسب إحدى مراكز التسويق لأعطيه أجر ما اشتريته ، وأمامي طفلان صغيران انتظرهما لينتهيان من محاسبتهما ، أتى رجلاً من خلفنا مشيراً إلي بالمحاسبة قبلهما ، قائلاً ( خل الصغار وتقدم ) ، استنتجت من تلك الكلمات الثلاث قلة احترام الصغار و التقليل منهم .
نرى دائماً بعضاً من تلك المواقف ومدى احتقار الصغار وعدم تقديرهم ، في المنازل والمدارس والأسواق والمساجد وفي كل مكان وللأسف ، مما دفعني لأتحدث عن "الاحترام" للناس عامة وللصغير خاصة .
الاحترام مبدأ شرعي إنساني حرص عليه القرآن والسنة ، بل وأُمرنا باحترام غير المسلم فضلاً عن المسلم ، مما يؤكد ضرورة وقدر هذا المبدأ في حياة البشرية ، ففي قوله تعالى : { لِتَعَارَفُوا } منهاج رباني .. فيه كل معاني الاحترام والتوقير والمسالمة عندما قال عز من قائل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ، وخذ درساً آخر بل دروس : { تُؤَدُّوا } ، { تَحْكُمُوا } ، { يَعِظُكُمْ } ، فكم فيها من البيان والتأكيد لاحترام الناس والكف عن أذيتهم وإعطائهم حقوقهم عندما قال في الآية الكريمة : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } .
و لنا في رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة في تعامله مع أصحابه ، فقد اهتم بهم وراعى مشاعـرهم فأكرم كبيرهم ورحم صغيـرهم فأنزل كل واحد منزلته فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" أنزلوا الناس منازلهم " مما يدل على تقدير الناس واحترامهم وإعطاء كل ذي حق حقه ، وفي سنن أبي داوود عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " بيانٌ آخر منه في احترام الغير فهو منهاجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينٌ وعادل ..
ولأمثال صاحبنا الذي كان في مركز التسويق أقول " اتركوكم من التخلف والتبجح إلى متى التعامل السيء مع الصغار ؟ " ، أما تعلم أن ظلمهم وعدم تقديرهم يَنزِعُ ثقتهم في أنفسِهم ويُنزِع منهم معاني الرجولة التي يسمون إليها ويفقدهمُ الكرامة ويغمسهم في خوض الرذائل وقبيح الأفعال ، وتجرُّ كل سوء عليه كانت أو على غيره ، ولو رأى له قدراً و مكانةً و احتراماً لما نأى بنفسه لمواطن القبح والزلل ، لكننا نعمل بعض التصرفات ولا نلقي بالاً لأثرها .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قيامها وقعودها ـ من فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكانت إذا دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها .
هذا هديُ نبيك ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخذ أيضاً ما رواه سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام : " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " ؟ ، فقال الغلام : لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، قال : فتلَّه رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يده. رواه البخاري ومسلم.
وخذ ختامها ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال : دخلت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء فيه لبن فشرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا على يمينه وخالد على شماله فقال لي : " الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالداً " ..
قد ينفع الأدبُ الأولادَ في صغر ** وليس ينفعهم من بعده أدبُ
إنَّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ** ولن تلين إذا قومتها الخُشُبُ
هكذا أُمرنا .. ، فلنحترم الصغير والكبير ولنحترم الأسود والأبيض والفقير والغني والأعجمي والعربي فاحترامنا لغيرنا ينم عن نضج عقولنا وحسن أخلاقنا وسمو أنفسنا وعملنا بالقرآن وتأسينا بسنة المصطفى العدنان .