الاستاذة عواطف الغامدي - جدة
العديد من التساؤلات ظهرت في مخيلتي في صباح ذلك اليوم الذي قررت فيها قريتي أن تبني مستقبل هذه القرية على أنقاض آثار تليدة تحكي تاريخ رجال وسيدات عمّروا دياراً ومساجد ..وفتحوا شوارع وأزقة ..فأتقنوا فوثّقوا فرسّخوا فأثّروا..وضعوا أمام كل باب حكمة وخلّدوا خلفه ذكرى ..وكأنني أرى قطرات من عرق الكد والتعب تغسل وجوههم ..والإبتسامة تعلو محياهم ..وقوة الهدف تتحدى الصعوبات ..ذلك الهدف هو بناء حضارة تتميز بها هذه القرية لتغدو بعد زمن آثار عظيمة إمّا أن تُخلّد كتاريخ حافل وأثر باقٍ وتُسوّر لتكون مزاراً عظيماً تأتي إليه الأجيال الجديدة لترى بأم عينها ماخلده أباءهم وأجدادهم ويلمسوا بأنفسهم قوة ذلك الهدف حتى تحقق فيُعزّز في نفوسهم قيم ودروس لن يجدوها في دور التعليم المجرد والمدارس .أو أن تُدك وتساوى بها الأرض وتُدك معها قيم ومثُل لجيل كان في أمس الحاجة إليها..وتُهدم حضارة قرية وتزول فلا يصبح لها حاضر ولا مستقبل ..لأنه بكل بساطة لا حضارة لمن لا ماضٍ له ..ولا تزُهِر الفروع وتُثمِر حتى يترسخ الأصل ويتشبع ويضرب جذوره في الأعماق فتُنبِت أطيب الثمر ..معظم الدول تتمسك بتاريخها وآثارها فهو مايعبر عن حاضرها ومستقبلها ..بل ويتفاخرون بهذا الماضي وهذه الآثار فيولون إهتماماً غير مسبوق بها ويحتفظون حتى بأصغر القطع الأثرية وأقدمها ..وكل مازاد قِدم هذه القطع كلما غلا وارتفع سعرها .. فهي تعني الكثير بالنسبة لهم ..ويكون ميزة وتفرد لكل دولة أن يكون لديها ما يخصها ويوثق بداياتها ويكون عيان وبيان للجميع ...بل حتى في تاريخ الأديان بين سطور كتابنا العزيز مايوضح مكانة الآثار في تاريخ كل نبي ..فتارة يشير إلى المكان الذي استقرت فيه سفينة نوح ..وتارة يشير إلى مساكن قوم صالح ..ومساكن قوم هود ..وقوم لوط ..والحضارة الفرعونية ..وتارة إلى إسم سورة كاملة بمكان مخلد وأثر باقِ وهو (الكهف).وغير ذلك مما يحضرني ولا يحضرني والأمثلة كثيرة ..ولو علِم من يقوم بمحو تلك الآثار أنه سيمحي حاضر ومستقبل قرية بما فيها من تاريخ قديم وشخصيات تعبت وضحّت وتنازلت الشيء الكثير حتى تبني تلك الحضارة ..لو علِم من يقوم بمحو تلك الآثار كم من الفخر والإعتزاز التي يحظى بها كل من يقوم بزيارة الآثار الإسلامية في كل مكان في العالم وصلت الفتوحات إليه ..فأسبانيا تزخر بالآثار الإسلامية وقصور الأندلس خير شاهد ..والآثار والمساجد الإسلامية القديمة في تركيا أيام الدولة العثمانية ..ومصر والأردن وصولاً إلى العراق والتي مازالت تبكي دموع مع كل نقطة حبر اختفت من المكتبات الإسلامية الزاخرة بكل حضارات العالم أجمع حين هاجمتها جيوش التتار لتمحي حضارة الدولة الإسلاميه التي من المفترض أن نكون سادة العالم بتلك الكتب حتى أصبح الحبر مختلط بالدم في أشرس المعارك ضد حضارة الإسلام ..فلنعتبر بمثل هذه الأمثلة التي تفخر بحضارتها وآثارها القديمة ولنتعظ بمن فقد تلك الحضارة.. وأصبح مآله الندامة والتحسر على ماضي كأنه لم يكن .فليس أقل من أننا نقدر تلك الأيادي التي بنت وتعبت وكافحت لتؤسس لنا هذه الحضارة بأن نقدم لها الشكر والعرفان ببقاء هذه الحضارة وذلك الأثر والمحافظة على هذا الإرث العظيم من الزوال ..فأمة بلا تاريخ هي أمة بتراء لا أصل لها ولا نفع .