عبدالله المغلوث -جده
فوجئت عندما شاهدت مذيع قناة الإخبارية، خالد مدخلي وجها لوجه لأول مرة. فلم أكن أتخيل أنه يسير بعصا وبجهاز مساند. لم أكن أتصور أن هذا الصوت الذي يزرع حقول الفرح يعرج. أن هذه الحنجرة التي تعَّد أحلامنا بالأمل تتكئ على حزن.
لم يخرج خالد من بطن أمه عام 1975، برجل ثالثة. لكن خطأ طبيا أحاله إلى مشلول. كان عمره عاما وشهرا، وقتئذ، عندما أصيب بارتفاع كبير في درجة الحرارة. حمله والده على كتفه وطار به إلى مستشفى القوات المسلحة بتبوك. كان عصر يوم أربعاء. المستشفى بدا خاليا من اختصاصي أطفال. كان أبوه يحمله بين ردهات المستشفى كغريق. يقتحم الغرف بحثا عن منقذ يكبح ألم ابنه دون جدوى. لم يأت الاختصاصي إلا في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم. وبعد كشف سريع عليه سأل الطبيب الممرض أن يعطي الطفل خالد حقنة على جناح السرعة. اعتذر الممرض عن إعطائها لأسباب لم يدركها الأب آنذاك. قام الطبيب بحقن خالد بنفسه. وسرعان ما انخفضت حرارته بسرعة قياسية. أعاده والده إلى المنزل، بعد أن اطمأن عليه.
بيد أنه صدم في اليوم التالي حينما شاهد رجل ابنه تتأرجح كأنها كيس رمل. ثمة غمامة نبتت على محياه لقاء هذا المشهد، جعلته يهرع حاملا ابنه خالد مجددا على كتفه إلى نفس المستشفى. وهناك تلقى أسوأ نبأ في حياته، المتمثل بشلل ابنه إثر حقنة خاطئة.
جمع والده أشلاءه التي تبعثرت في غرفة الطبيب المناوب، وأخذ يسأل عن الاختصاصي الذي أعطاه الحقنة القاتلة. يتذكر والده الضابط المتقاعد في القوات المتسلحة، أحمد علي غليلة مدخلي، تلك اللحظات قائلا:"كنت مشتتا. لكنني تماسكت إيمانا بقضاء الله وقدره". قاوم أبوه حزنه وأخذ يتردد على المسؤولين في مستشفى القوات المسلحة لمقاضاة الطبيب. اندلع التحقيق فعليا. وتبين لاحقا أن الطبيب نفسه تسبب في إصابة خمسة أطفال آخرين بالشلل جراء حقن خاطئة. خالد، الذي يبلغ الآن نحو 40 عاما، يرجو أن يلتقي الطبيب، الذي تسبب في إعاقته. يقول "أتمنى فقط أن أشاهده ويشاهدني". لا يعلم خالد إذا كان الطبيب عوقب جراء ما فعله أم لا. لكن يعرف شيئا واحدا ردده مرتين:"إصابتي في قدمي لم ولن تمنعني أن أحلم".
بالفعل خالد لم ينذو. فقد حقق نتائج دراسية مميزة جعلته يتخرج بتقدير ممتاز في تخصص اللغة العربية في جامعة الملك سعود.
وتقدم مباشرة لإدارة التعليم والثقافة في وزارة الدفاع على وظيفة معلم. لكن طلبه رفض لأنه معاق. ثم قدم أوراقه إلى وزارة الإعلام . واجتاز المقابلة الشخصية التي شارك فيها كبار المذيعين في التلفزيون، وقتئذ، وهم: غالب كامل، وإبراهيم الصقعوب، وحسن التركي، وعبد المحسن الحارثي. وسألوه خلال المقابلة أن يقرأ خبرا موجزا. وبعد أن خرج من المقابلة. ناداه مهندس الصوت، عبد الرزاق الحمدان. وسأله:"هل تركت رقم هاتفك؟". وأجابه خالد بالإيجاب. فرد عليه الحمدان باقتضاب:"إذن، إن شاء الله خير".
ورغم أن المؤشرات إيجابية على قبوله على وظيفة مذيع في وزارة الثقافة والإعلام إلا أن خالد لم يكن متفائلا حينها كون عدد المتقدمين تجاوز 400 شخص، والمطلوب 20 فقط. يفسر تشاؤمه: "أنا جيزاني، وليس لدي واسطة، ومعاق، كيف سأحصل على هذه الوظيفة؟". وحتى لا ينتظر ما لا يجيء على حد تعبيره، قدم أوراقة إلى وزارة التربية والتعليم. وقد واجه هناك موقفا كوميديا مبكيا. فقد طلب منه المسؤول خلال المقابلة أن يصعد الدرج ويهبط منه ثلاثا وأن يصعد على الكرسي ثلاثا. ونهره المسؤول حينما استعان بيده ليصعد على الكرسي. قال له بصوت عال: "لا تستخدم يدك". حينها انصرف خالد من المقابلة منكسرا، لكنه فوجئ باسمه مقبولا في الصحف في الوظيفتين كمعلم وكمذيع. واختار التلفزيون جراء الانطباع السلبي الذي يحمله تجاه وزارة التعليم بعد المقابلة الشخصية.
سيظل خالد مدهشا بحنجرته ومهنيته رغم كل الظروف التي تحاصره، متمنيا فقط أن يرمي عصا الحزن التي يمسكها، مرددا مع القصيبي: ارمِ عصاتكَ ! ما أنت أعرج... إنما نحنُ جوقة العرجان.
#عبدالله_المغلوث
فوجئت عندما شاهدت مذيع قناة الإخبارية، خالد مدخلي وجها لوجه لأول مرة. فلم أكن أتخيل أنه يسير بعصا وبجهاز مساند. لم أكن أتصور أن هذا الصوت الذي يزرع حقول الفرح يعرج. أن هذه الحنجرة التي تعَّد أحلامنا بالأمل تتكئ على حزن.
لم يخرج خالد من بطن أمه عام 1975، برجل ثالثة. لكن خطأ طبيا أحاله إلى مشلول. كان عمره عاما وشهرا، وقتئذ، عندما أصيب بارتفاع كبير في درجة الحرارة. حمله والده على كتفه وطار به إلى مستشفى القوات المسلحة بتبوك. كان عصر يوم أربعاء. المستشفى بدا خاليا من اختصاصي أطفال. كان أبوه يحمله بين ردهات المستشفى كغريق. يقتحم الغرف بحثا عن منقذ يكبح ألم ابنه دون جدوى. لم يأت الاختصاصي إلا في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم. وبعد كشف سريع عليه سأل الطبيب الممرض أن يعطي الطفل خالد حقنة على جناح السرعة. اعتذر الممرض عن إعطائها لأسباب لم يدركها الأب آنذاك. قام الطبيب بحقن خالد بنفسه. وسرعان ما انخفضت حرارته بسرعة قياسية. أعاده والده إلى المنزل، بعد أن اطمأن عليه.
بيد أنه صدم في اليوم التالي حينما شاهد رجل ابنه تتأرجح كأنها كيس رمل. ثمة غمامة نبتت على محياه لقاء هذا المشهد، جعلته يهرع حاملا ابنه خالد مجددا على كتفه إلى نفس المستشفى. وهناك تلقى أسوأ نبأ في حياته، المتمثل بشلل ابنه إثر حقنة خاطئة.
جمع والده أشلاءه التي تبعثرت في غرفة الطبيب المناوب، وأخذ يسأل عن الاختصاصي الذي أعطاه الحقنة القاتلة. يتذكر والده الضابط المتقاعد في القوات المتسلحة، أحمد علي غليلة مدخلي، تلك اللحظات قائلا:"كنت مشتتا. لكنني تماسكت إيمانا بقضاء الله وقدره". قاوم أبوه حزنه وأخذ يتردد على المسؤولين في مستشفى القوات المسلحة لمقاضاة الطبيب. اندلع التحقيق فعليا. وتبين لاحقا أن الطبيب نفسه تسبب في إصابة خمسة أطفال آخرين بالشلل جراء حقن خاطئة. خالد، الذي يبلغ الآن نحو 40 عاما، يرجو أن يلتقي الطبيب، الذي تسبب في إعاقته. يقول "أتمنى فقط أن أشاهده ويشاهدني". لا يعلم خالد إذا كان الطبيب عوقب جراء ما فعله أم لا. لكن يعرف شيئا واحدا ردده مرتين:"إصابتي في قدمي لم ولن تمنعني أن أحلم".
بالفعل خالد لم ينذو. فقد حقق نتائج دراسية مميزة جعلته يتخرج بتقدير ممتاز في تخصص اللغة العربية في جامعة الملك سعود.
وتقدم مباشرة لإدارة التعليم والثقافة في وزارة الدفاع على وظيفة معلم. لكن طلبه رفض لأنه معاق. ثم قدم أوراقه إلى وزارة الإعلام . واجتاز المقابلة الشخصية التي شارك فيها كبار المذيعين في التلفزيون، وقتئذ، وهم: غالب كامل، وإبراهيم الصقعوب، وحسن التركي، وعبد المحسن الحارثي. وسألوه خلال المقابلة أن يقرأ خبرا موجزا. وبعد أن خرج من المقابلة. ناداه مهندس الصوت، عبد الرزاق الحمدان. وسأله:"هل تركت رقم هاتفك؟". وأجابه خالد بالإيجاب. فرد عليه الحمدان باقتضاب:"إذن، إن شاء الله خير".
ورغم أن المؤشرات إيجابية على قبوله على وظيفة مذيع في وزارة الثقافة والإعلام إلا أن خالد لم يكن متفائلا حينها كون عدد المتقدمين تجاوز 400 شخص، والمطلوب 20 فقط. يفسر تشاؤمه: "أنا جيزاني، وليس لدي واسطة، ومعاق، كيف سأحصل على هذه الوظيفة؟". وحتى لا ينتظر ما لا يجيء على حد تعبيره، قدم أوراقة إلى وزارة التربية والتعليم. وقد واجه هناك موقفا كوميديا مبكيا. فقد طلب منه المسؤول خلال المقابلة أن يصعد الدرج ويهبط منه ثلاثا وأن يصعد على الكرسي ثلاثا. ونهره المسؤول حينما استعان بيده ليصعد على الكرسي. قال له بصوت عال: "لا تستخدم يدك". حينها انصرف خالد من المقابلة منكسرا، لكنه فوجئ باسمه مقبولا في الصحف في الوظيفتين كمعلم وكمذيع. واختار التلفزيون جراء الانطباع السلبي الذي يحمله تجاه وزارة التعليم بعد المقابلة الشخصية.
سيظل خالد مدهشا بحنجرته ومهنيته رغم كل الظروف التي تحاصره، متمنيا فقط أن يرمي عصا الحزن التي يمسكها، مرددا مع القصيبي: ارمِ عصاتكَ ! ما أنت أعرج... إنما نحنُ جوقة العرجان.
#عبدالله_المغلوث